مؤلف جدير بالتقدير

بقلم الدكتور حكمت الشعرباف

أما الكتاب فهو ( الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة ) ، وأما المؤلف فهو الأستاذ علاء الدين الأعرجي ، المفكر العربي والشخصية الثقافية المعروفة ، وهو يعّرف نفسه في مقدمة الكتاب الذي نحن بصدد إستعراضه بأنه ( عروبي عميق الجذور ، يكافح بضراوة منذ شبابه المبكر، في سبيل إنقاذ هذه الأمة من هذه الغمة ) ( ص 23 )..وعلى صفحات الكتاب نلمس الدليل تلو الدليل على وطنيته وحسه القومي ، ونقرأ نماذج من مشاركاته في التظاهرات التي كانت تنطلق منددة بممارسات السلطات الحاكمة يومذاك في إبتعادها عن تطلعات الأمة في الحرية والإستقلال السياسي وفي إنحياز تلك السلطات للإستعمار ومشاريعه في المنطقة العربية.

والكتاب جزء من محور عام لموضوع أساس ، أخذ المؤلف على عاتقه أمر دراسته ، هو ( أزمة التخلف الحضاري في الوطن العربي.. وعنوان الكتاب ، وحده ، يعطيك فكرة متكاملة عن محتواه ، فالكتاب يقرأ من عنوانه ، ففي هذا العنوان مصطلحات ثلاثة شرحها المؤلف بإسهاب في المقدمة وفي فصول الكتاب الخمسة..وهذه المصطلحات هي (الأمة الممزقة) ، و(البداوة المتأصلة) ، و (الحضارة الزائفة ) .

وهنا نتفق مع المؤلف الفاضل في إستخدامه لمصطلح ( الأمة العربية الممزقة ) ، فتمزق الأمة وتشرّذمها لا يحتاج الى دليل ، ويكفي أن نلقي نظرة على واقعنا العربي اليوم لنجد أن ما كنا نتغنى به من أن (بلاد العرب أوطاني ....من الشام لبغدان) ما هو إلا بيت شعر ساذج ، لو تسنى لقائله أن يقوم من قبره ورأى ما آلت إليه أوضاع الأمة العربية لأبدى إعتذاره عما قال وتعهده بأن لا يقول مثل هذا الكلام ( الفارغ) بعد اليوم ولعاد الى قبره كاسف البال. ولعل الشاعر نزار قباني قد أعطانا صورة معبّرة ، صادقة وواقعية ، عن حال المواطن العربي وهو يجلس في نقطة الحدود بين بلدين عربيين منتظراً السما له بدخول أحد البلدان العربية فيقول :

وأمامي أرتفعت لافتة تتحدث عن وطن واحد

تتحدث عن شعب واحد

وأنا كالجرذ هنا قاعد

...................

وأظل على باب بلدي

مرمياً كالقدح المكسور

وتمثّل مفردة ( البداوة المتأصلة ) ، والتي جاء بها المؤلف كجزء من عنوان الكتاب وكموضوع تحدث عنه بإسهاب ، ركناً ثانياً من أركان ( ثلاثية الأعرجي ) التي أشرنا إليها في صدر هذه المقالة ...والبداوة مرحلة تاريخية مرت بها شعوب الأرض كي تنتقل منها الى مرحلة تاريخية أخرى أكثر تطوراً ، إلا أنها في الأمة العربية قد تأصلت وتجذّرت كما يقول الأعرجي ، وهذا رأي لا يسعنا إلا تأييده ، فالأعراف العشائرية ، والتي هي التطبيق العملي للبداوة ، لا زالت سارية في البلدان العربية مع تفاوت في مستويات العمل بهذه الأعراف والممارسات بين بلد عربي وآخر. وإذا أخذنا العراق كإنموذج أقول أن الأعراف العشائرية فيه ظلت سائدة ، يتفاوت العمل بها عكسياً مع تفاوت قوة القانون ، فهي سائدة صريحة إن كان تطبيق القانون المدني رخواً ، وهي كامنة مستترة حين يكون هذا التطبيق حازماً. وفي العهد الملكي ( 1921 – 1958 ) كان هناك ما يسمى بقانون دعاوى العشائر ، وقد أعطى هذا القانون لبعض الأعراف العشائرية صفة الشرعية ، فالقاتل بدافع المحافظة على الشرف ينال عقوبة مخففة ، والجريمة المرتكبة في الريف ، كجرائم الأخذ بالثأر ، يحكم فاعلها حكماً يقل عن ما يطاله لو أرتكبت ذات الجريمة في المدينة . ولقد كان من مآثر الحكم الجمهوري الذي قام في العراق عام 1958 أن ألغى هذا القانون وعاد ساكن الريف وقاطن المدينة ينالان العقاب ذاته ، إلا أن الربع الأخير من القرن العشرين شهد ظاهرة تفشي الممارسات العشائرية من جديد ، بدعم من الدولة أو بتشجيع منها وذلك لأغراض سياسية ، حتى لقد أصبحت اليوم وللأسف الشديد هي القانون ، أو أن لها من القوة ما يفوق سلطة القانون.

وعند الحديث عن ( الحضارة الزائفة ) ، وضع المؤلف في أحد الهوامش ( ص 18 ) تعريفاً للتفريق بين التحضر والحضارة ، ( فالتحضر يعني مجرد الإستقرار في المكان بدل التنقل في البراري طلباً للماء والكلأ كما كان يفعل البدو ، أما تعبير الحضارة فيعني وصول الجماعة الى مراحل متقدمة من التطور الفكري والعملي ...ألخ ) ، وبهذا التعريف الدقيق يبدو لي أننا ، نحن العرب ، قد سكنّا المدن وإتخذنا العمارات التي تناطح السحاب طولاً دليلاً على تحضرنا دون أن نأخذ من الحضارة إلا مظاهرها الزائفة ، أخذت أمم الأرض لباب الحضارة وأخذنا نحن القشور.

وفي فصول الكتاب يجد القارئ مصطلحات جديدة لم يألفها من قبل كمصطلحي ( العقل الفاعل والعقل المنفعل ) و ( العقل المجتمعي ) ، ولقد إستوقفني هذا المصطلح الأخير وبشكل خاص ما ذكره المؤلف عن ( الرواد الذين يثورون على قيود وحدود العقل المجتمعي وسجونه....وغالباً ما يواجهون مقاومة شديدة من حرّاس العقل المجتمعي ، أو زبانيته ، لا سيما في مجتمعاتنا العربية ) ( ص 16-17 ) . وأقول هنا أن من عناهم الأعرجي بحراس العقل المجتمعي هم أنفسهم ( وعاظ السلاطين ) عند المرحوم الدكتور علي الوردي عالم الإجتماع العراقي المعروف . لضحايا الإرهاب الفكري أينما كان وحيثما حل نردد البيت الشهير للشاعر الكبير الجواهري في قصيدته في ( ذكرى أبي العلاء المعري ) :

لثورة الفكر تاريخ يحدثنا بأن ألف مسيح دونها صلبا

ولعل ما نخالف به المؤلف من أراء هو ما جاء في الفصل الثاني من الكتاب ( ص 33 – 56 ) والذي جاء بعنوان ( إحراق المراحل – عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة ) وخلاصة ما ذكره الأعرجي في هذا الفصل هو رأيه في أن من أسباب التخلف الحضاري في الأمة العربية هو عدم مرورها بمرحلة الزراعة . ومن الدلائل التي ساقها لإسناد رأيه هذا هو ما أورده البخاري من أن الرسول محمد (ص ) قد لاحظ محراثاً في أحد بيوت الأنصار فقال : ( ما دخلت هذه السكة داراً إلا دخله الذل ) ( ص 20 ) . ولا نريد هنا أن نتخذ موقف رواة الحديث فنصحح الحديث أو نضعّفه ، ولكني أقول أن هناك حديث نبوي هو على الضد من ذلك ، فلقد روى الأمام أحمد ، وكذا البخاري ، عن الرسول ( ص ) أنه قال ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن إستطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل )...وفي العهد الشهير للإمام علي ( ع ) الى عامله مالك الأشتر فقرات يستدل منها على أهمية عمارة الأرض ، أي الزراعة ، ورعاية القائمين عليها ، أي الزرّاع ) ، ومنها هذه الفقرة التي يقول فيها ( وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في إستجلاب الخراج )...

والخلاصة ، فالكتاب جدير بأن يقرأ قراءة واعية متأنية ، والمؤلف الفاضل جدير بالتقدير لما أثار بكتابه هذا وبمؤلفاته الأخرى من أراء تصلح للمناقشة والدراسة والتحليل ، وهو كذلك جدير بكل الإحترام.