ذكريات ومفارقات ودروس الطائفية المرفوضة

بقلم الأعرجي

في صراعه ضد القوى الإمبريالية الغربية، التي كانت بريطانيا تمثل رمزها البارز، منذ القرن التاسع عشر، بوجه خاص، سجل الشعب العراقي، بدمائه، ثورات وانتفاضات، نذكر منها خصوصاً: ثورة العشرين، وحركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، ثم وثبة الشعب الصارمة والعارمة، من 5 إلى27 كانون الثاني/ يناير 1948، التي أسقطت حكومة صالح جبر ومعاهدة بورت سموث، التي اعتبرها الشعب العراقي، ممثلاً بالأحزاب الوطنية المعارضة، مخلّة بسيادة العراق واستقلاله ومصالحه الوطنية والقومية. وهي لا تختلف كثيراً عن معاهدة 1930، التي تكبل العراق بقيود صارمة، بل أكثر منها ميلاً لمصالح بريطانية. ثم جاءت ثورة 1958 التي ألغت الملكية، وأسست الجمهورية. مع أنني أعتبر هذه الأخيرة انقلاباً أكثر من ثورة/وثبة شعبية. ومع ذلك قد تعتبر ثورة 1958ثورة شعبية لأنها لاقت تأييداً شعبياً كاملاً وقامت بإصلاحات بنيوية: اجتماعية واقتصادية وسياسية مهمة. وذلك على الرغم من شجبنا لما رافقها، في أيامها الأولى، من تصرفات غير إنسانية يندى لها الجبين. الأمر الذي يذكِّرُنا بنظريات المؤرخ الفيلسوف غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير".

أهمية استعادة ذكرى الوثبة

ملاحظة: نعتذر لأننا مضطرون لاستخدام مصطلحين نابيين نترفع عادة عن استخدامهما، وأقصد بهما " السنة والشيعة"، فيما يلي من هذا المقال.

وتأتي أهمية استعادة ذكرى هذه الوثبة، في هذه الأيام بوجه خاص من الأسباب التالية:

1- كونها ثورة شعبية تلقائية لم تظهر فيها قيادة شخصية معينة، ولا قيادة حزب معين واحد بل نشأت وتطورت وتفجَرَت وانتصرت، بفضل كفاح الشعب العراقي الذي استجاب للأحزاب الوطنية المعارِضة وأهمها: الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الشعب وحزب الاستقلال والحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي.

2- كما تتزايد أهميَّة ذكرى هذه الوثبة، لأنها وثبة جميع شرائح الشعب العربي، بلا تمييز خصوصاً بين السُنّة والشيعة، لاسيما وقد كان رئيس الوزراء العراقي صالح جبر شيعياً، نُصِّبَ خصوصاً لتمرير المعاهدة الجديدة، ظناً أن الشيعة سيدعمونه، وقد حصل العكس تماماً، كما سنشرح فيما بعد.

3- كذلك تنجم أهمية استعادة ذكرى هذه الوثبة في المقام الثالث، من كون كاتبها من القليلين جداً، الذين ما يزالون على قيد الحياة، والذين اشتركوا في جميع أيامها الساخنة، بكل نشاط.

4- مراجع البحث

استعنت في تدقيق بعض التواريخ والمواقع والأحياء البغدادية القديمة ببعض الزملاء الذين عاصروا أحداث الوثبة، واشتركوا فيها، ومنهم الأخ الدكتور شاكر الجنابي والأستاذ الفاضل المرحوم غالب مقصود، صاحب الكتاب المتميز "سوالف بغدادية". كما استعنت بالمهندس الأستاذ سلام الدليمي الذي كان يشغل منصب وكيل أمين العاصمة، لتذكيري ببعض المواقع البغدادية القديمة.

وعلى صعيد الخلفيات السياسية/التاريخية للوثبة استعنت بكتاباتي السابقة عنها. فضلاً عن كتاب "العراق في التاريخ" الصادر في بغداد من دار الحرية، وموسوعة المعرفة والويكيبيديا، ومقالة الدكتور كاظم الموسوي في "موقع الحوار المتمدن بتاريخ 13/1/2014. وكتابات أخرى على الشبكة منها مقالات فائز الحيدر وسيف الدين عبد الجبار وحسن عبد راضي.

خلفيات

أسفرت ثورة العشرين عن إنشاء حكومة "شبه وطنية" مقيّدة، كانت تُعتبر، مع ذلك، أفضل من الحكم البريطاني المباشر، الذي فـُرض على العراق، نتيجة معاهدة سايكس بيكو. وهي المعاهدة التي عقدتها بريطانيا سراً مع فرنسا، حيث وُزعت بموجبها بلاد الشام والعراق بين بريطانيا وفرنسا، في نفس الوقت الذي كانت بريطانيا تقدم الوعود الكاذبة للعرب.

وهكذا مهدت وثبة 1948 الشعبية، لانطلاق ثورة العراق، بعد عشر سنوات (14، تموز/يوليه 1958)، التي قضت على النظام السابق، الذي كان، بوجه عام، يسير في ركب الاستعمار البريطاني، كما هو معروف. ذلك الاستعمار الذي ظل يُطرد من الأبواب الواسعة فيعود إلى التسلل من الشبابيك، بل من شقوقها الكثيرة. وذلك لأن نوافذنا غير مُحْكَمَة وأبوابنا متداعية، لأسباب حاولتُ شرحها في كتابي "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"، في طبعته الخامسة الموسَّعة، التي صدرت في لندن، عام 2015 من مؤسسة "إي- كتب" الغراء. [1]

أفول نجم بريطانيا العظمى

بعد الحرب العالمية الثانية

خرجت بريطانيا العظمى من الحرب العالمية الثانية مُنهكة وضعيفة، وأصبحت تابعة إلى الولايات المتحدة تقريبا. فالتفتت إلى الشرق الأوسط، تُضمد به جراحها النازفة، واقتصادها المنهار. علماً أن المنطقة كانت مهددة من الشمال بالاتحاد السوفييتي، لاسيما بعد ظهور دولة مستقلة في أذربيجان محاذية لإيران، تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، وهذا ما يقلق بريطانيا. وفي نفس الوقت، ظهرت بعض علامات تقارب بين العراق وأمريكا، التي خرجت من الحرب أكثر قوة وتأثيراً في المعادلات الدولية الجديدة. خصوصاً وقد اضطلعت الولايات المتحدة الأمريكية بدور حاسم في إنهاء الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء، الأمر الذي جعلها تتبوأ مكانة سامية في المجتمع الغربي والدولي.

وبقدر ما يتعلق بالعراق، فقد لاحظت بريطانيا بقلق زيارة الوصي عبد الإله لأمريكا في عام 1945، فضلاً عن تعيين وزير مفوض في واشنطن بدلا من قائم بالأعمال. وتجلى ذلك القلق في رسالة وجهها تشرشل إلى الرئيس روزفلت يقول فيها، بين أمور أخرى" أشكركم شكراً جزيلاً على تأكيداتكم الخاصة بعدم التطلع إلى حقولنا في إيران والعراق. ودعني أعاملكم بالمثل فأعطيكم أوفى تأكيد بأن ليس لدينا أي نية في محاولة إقحام أنفسنا في مصالحكم أو ممتلكاتكم في المملكة العربية السعودية".. (حسن عبد راضي، "نصف قرن من النفوذ البريطاني"، صحيفة الصباح، 26/8/2007)

أي إنه يقول له بصراحة: هذه حصتنا من الغنيمة، فلا تتقربوا منها، وتلك حصتكم، نعدكم ألا نتقرب منها. وعلى هذا المنوال تقاسم الطرفان نهب المنطقة.

وهكذا رأت بريطانيا أن تراوغ، فتستجيب ظاهريا لمطالب الشعب العراقي بتعديل معاهدة 1930. ولكن لمصلحتها هي، وليس لصالح الشعب العراقي. فمهدت لذلك بعد سقوط وزارة أرشد العمري، بالإصرار على ترشيح نوري السعيد للوزارة، كمرحلة تحضيرية. فحقق المهام التي جاء من أجلها، ثم سلّمها لصالح جبر، الذي عارضته مختلف الأحزاب الوطنية، فأغلق الصحف المعارِضة واعتقل بعض القادة السياسيين الوطنيين. ثم فتح باب المفاوضات مع بريطانيا في هذا الـمـُناخ القامع.

وفي 6 كانون ثاني/ يناير 1948 فوجئ الشعب العراقي بما نشرته بعض الصحف عن تصريحات وزير الخارجية فاضل الجمالي، من لندن أعلن فيها أن الحكومة العراقية على وشك التوقيع على معاهدة جديدة مع بريطانيا، ستحظى برضى الشعب العراقي.

فتوَجَّسَت الأحزاب الوطنية المعارضة شراً (وهي الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الشعب وحزب الاستقلال والحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي العراقي) من هذه المعاهدة الجديدة التي أحيطت مفاوضاتها بالكتمان أولاً، ولأنها تُعقد من جانب حكومة لا تحظى بالتأييد الشعبي.

وفي هذا الوقت بالذات كان الشارع البغدادي متوتراً أصلاً، ومستعدّاً للنهوض والتظاهر السلمي للتعبير عن رفضه لسياسة الحكومة "الجبرية" عامة، والمعاهدة الجديدة خاصة، فضلاً عن موقفها المتهافت تجاه القضية الفلسطينية التي يعتبرها الشعب العراقي قضيته بالذات.

وفعلاً حدثت إضرابات وتظاهرات، بدأت بمظاهرة كليّة الحقوق في الخامس من كانون الثاني/يناير، 1948. فقوبلتْ جميعها بالعنف والقوة، وبالبيانات الحكومية الناريّة. فأُغلقت الكليات والمعاهد العالية بما فيها كلية الحقوق. وساد جو من الغضب والترقُّب.

وفي الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير جرى التوقيع على المعاهدة من جانب الوفدين العراقي والبريطاني في ميناء بورت سموث. لذلك سميت المعاهدة باسم الميناء.

بعد إعلان بعض بنود المعاهدة، التي اعتبرت أسوأ من سابقتها لاسيما من حيث منح بريطانيا العظمى امتيازات واسعة، لاسيما في حالات الحرب مع دولة ثالثة، فضلا عن قاعدتين عسكريتين دائمتين، بل تمديد زمن سريان المعاهدة الجديدة؛ ازدادت الأوضاع توتراً، فأضربت الكليات والمعاهد العالية. وتبعتها مدرستنا، الثانوية المركزية، وهي أكبر وأهم مدرسة ثانوية في العراق، فتبعتها بقية المدارس. وامتدت الإضرابات إلى معظم المرافق الأهلية العامة؛... ومع أن الحكومة منعتْ التظاهرات والتجمعات، وفرَضَتْ منع التجوال، بيد أن الجماهير تحدت الأوامر. فخرجنا نهتف برفض المعاهدة الجديدة وجلاء القوات البريطانية، وسقوط حكومة صالح جبر، وحلّ المجلس النيابي، وتوفير رغيف الخبز. فسقط العديد بين قتيل وجريح.

الوصي يدعو إلى اجتماع عاجل

ونتيجة لهذه الأحداث الخطيرة دعا الوصي الأمير عبد الإله إلى اجتماع حضره معظم الشخصيات السياسية ومنهم: السيد محمد الصدر وجميل المدفعي وحكمت سليمان وحمدي الباجه جي وارشد العمري ونصرة الفارسي وجعفر حمندي ومحمد رضا الشبيبي وعبد العزيز القصاب وصادق البصام وعبد المهدي المنتفجي ومحمد مهدي كبة وكامل الجادرجي وعلي ممتاز الدفتري ونقيب المحامين نجيب الراوي. كما حضره عن الحكومة جمال بابان وكيل رئيس الوزراء وأعضاء الوزارة. وبعد مناقشات عسيرة وطويلة وخلاف في وجهات النظر بين الحكومة والمعارضة، أصدر المجتمعون المعارضون، بياناً أشاروا فيه، إلى أنهم بعد اطلاعهم على المعاهدة العراقية البريطانية الجديدة، أكدوا ضرورة رفضها، وقالوا إنها لا تحقق أماني البلاد، وليست أداة صالحة لتوطيد دعائم الصداقة بين البلدين.

وفي اليوم التالي فوجئنا بتصريح صالح جبر رئيس الوزراء، من لندن أعرب فيه عن أمله بأن "البرلمان العراقي والشعب، سيجدان في المعاهدة ما يحقق الأماني القومية تحقيقاً كاملاً، وأشار إلى أن بعض العناصر الهدامة من الشيوعيين والنازيين، استغلت فرصة غيابه، وأحدثت القلاقل في البلاد، وأنه سيعود فوراً إلى العراق، وسيسحق رؤوس هذه العناصر الفوضوية حتماً". (سيف الدين عبد الجبار، جريدة الزمان، 30/4/2005)

وهكذا عادت المظاهرات من جديد، وتصاعدت يوم 26 كانون الثاني 1948 وهو اليوم الذي عاد به صالح جبر من لندن.

وعقد بعض الساسة المعارضين اجتماعاً في دار جعفر حمندي، حضره محمد رضا الشبيبي ومحمد مهدي كبة وكامل الجادرجي وحسين جميل وداخل الشعلان وعلي ممتاز الدفتري ونصرة الفارسي وآخرون، واتفقوا على وجوب الاستمرار في التظاهرات التي تصاعدت وبلغت أوجها يوم 27 كانون الثاني حين تحولت العاصمة إلى ساحة حرب حقيقية. وسقط الكثير من الشهداء، خصوصا في معركة جسر المأمون، الذي أُطلق عليه جسر الشهداء فيما بعد. وفيه استشهدت أول امرأة. واستقال عدد من النواب والوزراء مما اضطر الوصي إلى إقالة وزارة صالح جبر وتكليف السيد محمد الصدر بتشكيل الوزارة، في 29كانون الثاني، "الذي أصدر قراراً بعدم موافقة حكومته على معاهدة بورت سموث، ووعد بإجراء تحقيق في الانتهاكات التي قامت بها الحكومة إزاء الجماهير الشعبية وإطلاق الحريات الدستورية ومنها الإفراج عن الصحف المعطَّـلة وإخلاء سبيل الموقوفين وحل البرلمان. فكان هذا نصراً للجماهير وللأساليب التي اتبعتها في الكفاح السياسي والاقتصادي والفكري".[2]

القضية الطائفية لم تكن مطروحة بل مرفوضة

ومن جهة أخرى، نكرر أن أهمية التذكير بهذه "الوثبة" والتعبير عن بعض جوانبها، على الصعيدين الشخصي والتاريخي، ينبثق من كونها تعتبر مثالاً جليّاَ لتقييم القائد السياسي، بناء على منجزاته وتاريخه وتطلعاته ومشاعره القومية والوطنية، وليس بناء على انتمائه الطائفي، في أي حال من الأحوال.

ونحن نحاول الآن العودة إلى تلك الفترة التي حدثت خلالها الوثبة لنبرهن على أن مسألة السُنَّة والشيعة لم تكن مطروحة أصلاً قبل الغزو الأمريكي. وسنتوسع قليلاً في تفصيل هذه النقطة لأنها في غاية الأهمية في الوقت الحاضر، حين أصبحت القضية الطائفية طاغية، ما يؤدي إلى صراعٍ ظاهر بين الطائفتين، وتدَخّل جهات خارجية في تشجيع ودعم كل طرف، ضد الطرف الأخر. وقد يؤدي ذلك إلى تقسيم البلد، لا سمح الله. وهذه النتيجة هي المقصودة من جانب أمريكا وربيبتها إسرائيل، من خلال زرع مبدأ المحاصصة الذي وضعه "بريمر" حاكم البلاد بعد الاحتلال، بتوجيه من أسياده، الأمر لذي أوصلنا إلى هذه الحالة من التشرذم والتمزق.

وفيما يلي نحاول أن نوضح حالات ومواقف عميقة الغور تدل بوضوح أن المسألة الطائفية لم تكن واردة أصلاً خلال تلك الفترة، وما قبلها وما بعدها، من تاريخ العراق:

1- رئيس الوزراء، صالح جبر، الذي يمثل أول رئيس وزراء شيعي تسلم الحكم بعد مرور قرابة ثلاثة عقود على إنشاء الحكم الوطني في العراق؛ رفضه الشعب العراقي بجميع شرائحه، مع أن الشيعة يمثلون النسبة الأكبر، على الأرجح.

2- أظن أن تسليم الوزارة إلى صالح جبر بعد استقالة نوري السعيد كان مقصوداً ومدبراً بين نوري نفسه والوصي والسفير البريطاني. وذلك لأنهم قدّروا أن معظم أعضاء الأحزاب المعارضة كانوا من الشيعة، لذلك فتمرير المعاهدة من خلال صالح جبر قد يكون أسهل، لأن معظم الشيعة سيقفون إلى جانبه.

3- ولكنَّ العكس هو الذي حدث؛ فقد أثبت شيعة العراق سواء في ثورة العشرين، أو خلال حركة رشيد عالي الكيلاني(السني)(1941)، الذي هلل لها الشعب العراقي بجميع شرائحه، فضلا عن وثبة 1948 هذه، بالإضافة إلى مواقفهم الوطنية التي تلت ذلك؛ أثبتوا أنهم ينتمون إلى عروبتهم ووطنهم، قبل كل شيء آخر، ولاسيما الطبقة المثقفة والواعية.

4- جميع الأحزاب الوطنية المعارضة كانت تضم مختلف الطوائف والأديان، بما فيها الطوائف السنية والشيعية.

5- حزب الاستقلال، الذي يعتبر أشد المعارضين لحكومة صالح جبر، والذي يرأسه محمد مهدي كبة، المنتمي إلى أسرة شيعية عريقة، كان حزباً عروبياً، لا يدخل في اعتباره تقييم الزعيم تبعاً لصبغته المذهبية أو الدينية، إطلاقاً. وجدير بالذكر أن الأستاذ فائق السامرائي (السني)، كان من مؤسسي الحزب ومن زعمائه المعروفين. وتتألف اللجنة المركزية للحزب، من عشرين سنياً وخمسة عشر شيعياً واثنين من المسيحيين. علماً أن هذه النسب لم تكن متعمدة أو مرسومة سلفاً، بل صادف أن تكون كذلك لاعتبارات تتعلق بالكفاءة والتفرغ والالتزام بأهداف الحزب وتطلعاته القومية والوطنية. ونحن نأسف مجدداً لتحليل هذه الوقائع وتفكيكها على أساس طائفي. وعذرنا في ذلك؛ مجرد التدليل على أن العراق لم يكن طائفياُ، بل وصلتنا هذه الآفة المدمِّرة بعد الاحتلال عمداً.

6- الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري (الشيعي) هجا صالح جبر (الشيعي) وبطانته من أذناب العهد في مرثيته العصماء "أخي جعفراً "، الذي استُشهد في واقعة الجسر. علماً أن الجواهري ألقى هذه الملحمة الشعرية في أهم جامع سني؛ "الحيدر خانة"، ما يدل مجدداً أن مسألة السنة والشيعة لم تكن مطروحة أصلاً.

7- كما يمثل كاتب هذه السطور، الذي ينتمي إلى أسرة شيعية محافظة، (بلا تزمت)، مثالاً واقعياً حياً، لمدى تحرر الشيعة، من قياس الزعيم بمسطرة التشيع والتسنن، بل أن هذا الموضوع لم يكن مفكراً به نهائياً، لدى الشيعة عموماً، حسب علمي، وسعة اتصالاتي الشخصية، على الأقل.

وبغية إثبات ذلك سنقدم للقراء نتفاً من التجربة الشخصية لكاتب هذه السطور، حينما كان في مقتبل العمر. وهذه الشذرات تعبر عما عاناه من صعاب، وما تعرض له من أخطار، أثناء تلك الوثبة، ثائراً ضد صالح جبر، على الرغم من شيعيته، بسبب موقف "جبر" المهادن للإنكليز، والمعادي للشعب العراقي. وقد حاول هذا الأخير، في أواخر أيام الوثبة، العزف على وترِ كون التظاهرات التي انفجرت ضده كانت بسبب انتمائه، وذلك بقصد تحويل الشيعة، الذين كانوا ربما يمثلون أكثرية الجماهير الثائرة، عن موقفهم المناوئ له إلى موقف المؤيد له. ولكنه فشل في هذا المسعى.

ففي الأيام الأخيرة للوثبة، أتذكر تماماً أنني لاحظت، أثناء تظاهراتنا الصاخبة والدامية، وفي وقت أصبحت فيه الجماهير مسيطرة على شارع الرشيد، الذي يمثل قلب العاصمة؛ لاحظتُ ظهور منشورات تشير إلى ذلك، فحرصنا على تمزيقها أو إهمالها، وكنت من أكثر المتحمسين لرفضها. ولم تؤثر هذه المحاولة الأخيرة في إنقاذ صالح جبر، مما اضطره إلى الاستقالة، أو بالأحرى أجبر عليها، فسقط في مساء 27/1/1948، لاسيما بعد "واقعة الجسر" التي حصدت العشرات من المتظاهرين.

ومع أننا كنا نعلم (كطلاب)، أن الأحزاب السياسية المعارضة (حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الأحرار وحزب الشعب والحزب الشيوعي العراقي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وهي أحزاب فيها خليط من الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيين وربما بعض اليهود، على السواء، دون أن تكون قضية التفرقة الطائفية أو الدينية مطروحة أصلا)، أقول تلك الأحزاب وقفت ضد إبرام المعاهدة وضد الحكومة، ودعت الجماهير إلى التظاهر لإسقاطهما؛ إلا أن معظم التظاهرات كانت عفوية أكثر من أن تكون منظمة وموجهة سلفاً. فجميع المظاهرات التي اشتركتُ فيها، لم تكن لها قيادات واضحة منظِمة، بل كانت تتحكم بها الآراء الشخصية الآنية. ومع ذلك كانت هناك توجيهات تنتشر بيننا بشأن مكان وزمان اللقاء في اليوم التالي مثلا.

ذكريات ومفارقات شخصية

في معظم تلك الأيام العصيبة والمثيرة، التي فُرض فيها نظام منع التجوال، كان كاتب هذه السطور يخرج من مسكنه، الذي يقع في الحي السكني الهادئ، في تلك الأيام الخوالي؛ الكرادة داخل (هويدي)، والذي كان يعتبر بعيداً عن مركز بغداد (أصبح اليوم جزءاً من المركز، وحدثت فيه تفجيرات كثيرة)؛ أقول، يخرج متلصصاً، قبل طلوع الفجر، في كل يوم من الأيام الحاسمة للوثبة. وأحيانا يلقي نظرة دامعة على أخواته المستغرقات في أحلامهن، ويتوقع أنها قد تكون نظرة اللاعودة الأخيرة. ولا ينسى أن يحمل في جيبه شيئا من كسرات الخبز "البايت" أو اليابس، الجاف (من جوة النجانة، مكان حفظ بقايا الخبز)، وبعض التمرات الجافة، (الزهدي الجسب)، وكتابا مدرسيا للتمويه، ليبدأ رحلته الخطِرة والمرهِقة على الأقدام، التي تتجاوز الساعتين، متخفيا بين الأحراش، في بساتين "الكرادة" الكثة وخلف جذوع النخيل الباسقة، بعيدا ً عن أنظار مفارز الشرطة التي كانت مسؤولة عن التطبيق الدقيق لمنع التجوال. وإذا وصل إلى مركز المدينة، فبين "الدرابين"، أي بين الأزقة الأثرية الضيقة في أحياء بغداد العتيقة، الذي كان يعرفها جيداً، ومنها الحيدرخانة السويدان والدهّانة والشورجة والميدان، التي كانت خالية من المارة، متوجها إلى حي المعاهد العالية في الباب المعظم، وهكذا يتجنب دوريات الشرطة الراكبة والراجلة، التي كانت منتشرة في جميع الطرق الرئيسة والساحات العامة لتفعيل منع التجوال. ومع ذلك لم يَنْج ُ من ملاحقة شرطة النظام. ففي بعض المرات قبضوا عليّه متلبسا بجريمة انتهاك "حُرمة" أوامر منع التجوال. فيقول ببراءة: "عمي، آني رايح البيتنة، بعكد السويدان، جنتْ بيت صديقي "محمد" دندرس للامتحان". (أي: يا عمّ، إنني عائد إلى بيتنا في حي السويدان، وكنت مع صديقي "محمد" نحضر للامتحان). ويتغير تحديده لحي إقامته، الكاذب، تبعاً لمكان إلقاء القبض عليه. فيتركونني.

وفي أحدى المرات وجد نفسه وجها لوجه أمام ضابط شرطة عملاق أخذ بتلابيبه، قبل أن يتمكن من أن يـَـنْبُـسَ بـِـبـِـنْتِ شَفة، نعم، أمسكه من عنقه ضاغطاً بشدة ورفعه عن الأرض والولد يُحشرج مختنقاً، ويحاول أن يصرخ فلا يستطيع، وهو "يًلبِط" كالسمكةِ الصغيرة في يد الصياد، وكاد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، لولا أن الشرطي يتوقف فجأة، ويضعه على الأرض مُرتبكاً، والصبي يَسْعَل مختنقاً بشدة، والضابط يحاول إسعافه، بعد أن حَملَهُ برفق ووضعه على "دكّة" على قارعة الطريق، وهو يُوَلْوِلُ قائلا: "علاء بن الأستاذ السيد صادق الأعرجي؟ وأخذ يسقيه ماءً من "مُطّارته" (ترموس بدائي). وما أن هدأ روعه قليلاً، والشرطي يسعفه ويواسيه، حتى تجرأ فرفع ناظره إلى الشرطي العملاق الذي كاد يفتك به قبل لحظات مستغرباً، فعَرِفَه:

أحد أبناء الفلاحين من سكان "الكرادة الشرقية" الأصليين، الطيبين الذين كانوا يزورون والد الصبي علاء(السيد صادق الأعرجي_ صحفي جريء ومجاهد عنيد وأستاذ للأدب العربي فيما بعد) في كثير من المناسبات ولاسيما في ليالي رمضان والأعياد، ويتمتعون بأحاديثه وقصصه التاريخية والدينية الشيّقة، والأشعار البسيطة، (الأبوذية، بند ابن الخلفة، أشعار ملا عبود الكرخي) وكان الصبي علاء يقدم لهم الشاي و"الكْلِيْجَة" العراقية المحشيّة بالتمر أو الجوز واللوز الـمُسَكّر(كعك العيد العراقي)، وكان هذا الشاب/ الصبي، الذي أصبح ضابط شرطة فيما بعد، يكبر علاء بعدة سنين، يحضر غالبا مع والده، فيقدم له علاء الشَرْبَتْ (عصير الفاكهة المركّز الذي يضاف إليه الماء)، بدل الشاي، الذي يقدمه إلى الكِبار، ويخصّه بعددٍ من قطع "الكليجة" وحلوى "الساهون"، ويدعوه ليلعب معه في الحديقة، أحياناً.

والأهم من كل ذلك، أن هذا "الولد" الذي كان على شفا الموت قبل لحظات، أصبح مُطلق السراح، فتنفس الصعداء وحـَمَدَ الله على السلامة، بل انتعش وانتفش، حين اعتذر الضابط منه بكل أدب، أمام بقية أفراد الشرطة، الذين كانوا تحت إمرته، قائلاً "والله يا أخي آني متأسف، بس ما اعرفتك أول مرّة "، وأعاد إليه كتابه الذي كان ملقى على الأرض. لكنه استدرك وكأنه تنبه، وفاجأ الصبي بسؤاله بتوجُس: "لكن أنت وين رايح بعيداً عن بيتكم في هذا اليوم العصيب؟". وهنا استجمع "الولد" بقايا شجاعته بمشقة، ونهض مُتَحَسِسَاً عنقه الموجوع، وتأكد من كتابه تحت إبطه. وقال له بكل تحد ٍ وكبرياءٍ وبلاغةٍ: "أنا ذاهب لتأدية واجبي الوطني المقدس، وأنت مُضطرٌ للقيام بواجباتك القذرة". قالها بسرعة ثم انطلق يعدو بل يسابق الريح، والشرطي يصرخ: عُدْ إلى بيتك، فلدينا تعليمات مشددة بمنع التظاهرات بأي ثمن، وإلا سألقي القبض عليك"... لكنه كان قد ابتعد كثيراً، قبل أن ينهي عبارته، مستغلاً تسامح هذا الشرطي العدو/ الصديق.

مَشاهد من مظاهرات حامية

خلال الفترة من 5 كانون الثاني/ يناير 1948، تاريخ مظاهرة كلية الحقوق حتى 27 منه، حين اضطر رئيس الوزراء صالح جبر أخيراً إلى الاستقالة، وألغيت المعاهدة الجديدة؛ حصلتْ أحداثٌ كثيرة وخطيرةٌ: فوْرات شعبية، معارك دموية، بين جماهير غاضبة عزلاء وقوات شرطة مسلحة تهاجم المتظاهرين، بالرصاص الحيّ، فيسقط عشرات القتلى والجرحى، وتصدر بيانات تهديد ووعيد، أو بيانات مهدئة ومطمئنة، واجتماعات على أعلى المستويات مع الوصي عبد الإله ورؤساء الأحزاب والسياسة. وسنصف شيئا من مظاهرتين فقط، اشترك فيهما كاتب هذه السطور، وتعرض خلالهما لأخطار شديدة.

مظاهرة كلية الهندسة الفاشلة

في أحد تلك الأيام العاصفة، التي مُنع فيها التجوال، اتفقنا على المكان والزمان، للخروج في مظاهرة، محددين مسارها. فوصلتُ إلى موقع اللقاء في الساحة المقابلة لكلية الهندسة، بعد مسيرة طويلة وخطيرة مثالها الطريقة التي وصفتها أعلاه. وكانت الكلية مغلقة رسميا وواقعياً، تحاشياً للتظاهر، لذلك كان من المفروض أن ننتشر أو نختبئ، بدون أن نجلب النظر، في الشوارع الفرعية وبين الأشجار والبنايات والحدائق العامة. وما أن دقت ساعة الصفر، وفي خلال فترة دقائق خرج عشرات الشباب من مكامنهم، وشكلنا كتلة بشرية متراصة متكاتفين بالأذرع، فكنت في الصف الثاني أو الثالث، لا أذكر، بالضبط.

وبعد دقائق نظرتُ إلى الخلف فإذا بالمظاهرة أصبحت تقارب المئات. وبعد أن توغلنا قليلا في الشارع المؤدي إلى ساحة باب المعظم، حيث كان هدفنا المرحلي الأول، ومنها إلى أهم شارع في وسط بغداد" شارع الرشيد "، حسب الخطة؛ وإذا بمفرزة من الشرطة الراكبة بعربة شرطة مصفحة، يعلوها مدفع رشاش، يتبعها عدد من أفراد الشرطة الراجلة تعترض طريقنا. وما هي إلا لحظات حتى راحت أصوات طلقات الرشاش تُلعلع، وفي ذات الوقت هجم علينا عشرات الشرطة ضرباً بمقابض البنادق الصلبة، وأذكر أنني تلقيت ضربة شديدة، فسقطتُ مغشياً عليّ. وعندما عدت إلى وعيي وجدتُ نفسي في حفرةٍ على جانب الشارع، لا أدري كيف وصلتُ إليها. شعرتُ بالدماء تسيل على وجهي، فتحسست جروحي، في رأسي وكتفي ورجلي. حاولت أن أتحرك بمشقة وألم. وأصوات الطلقات النارية لا تنقطع. رأيت بعض الطلاب يتراكضون ويحاولون اقتحام مبنى كلية الهندسة، بلا جدوى، وآخرين يتسلقون السياج الحديدي العالي. فتحاملتُ على نفسي وتمكنت من الخروج من الحفرة بصعوبة بالغة، وتوجهت إلى مبنى الكلية، فلم أتمكن من تسلق السياج، فساعدني بعض الرفاق. ويبدو أن بعضهم استطاع أن يدخل المبنى الرئيسي بطريقة ما، وتمكن من فتح الباب الكبير من الداخل. فأدخلوني في ردهة كبيرة، وأنا ما أزال في شبه غيبوبة بسبب شعوري بالدوار والآلام. فتهالكت مستلقيا على البلاط. وشعرت أن بعضهم يضمد جراحي ويجفف الدم من وجهي. وربما دخلت في غيبوبة أو نوم عميق، لا أدرى، لأنني استفقت، بعدها بوقت طال أو قصر، على صوت الزميل صالح جواد الكاظم (الأستاذ الجامعي فيما بعد) يخطب في الطلاب اللاجئين مشجعاً، ثمَّ يعلن أننا محاصرون من جانب قوات الشرطة، ونحاول أن نفك الحصار بالتفاوض معهم. وعلمتُ بسقوط بعض القتلى وتوقيف آخرين وعدد كبير من الجرحى. وبقينا مسجونين إلى المساء. حين أطلقوا سراحنا بشكل أفراد متفرقين.

معركة الكلية الطبية

وفي يوم آخر من تلك الأيام الحالكة والساطعة، كنـّا على موعد للقاء في المدخل المؤدي إلى الكلية الطبية، لننطلق من هناك، حسب الخطة، إلى ساحة باب المعظم، ومنها إلى شارع الرشيد، أهم شارع في وسط العاصمة. وقبل أن نبدأ التجمع، وكان عددنا بالعشرات أو أقل، لأن الوقت لا يزال مبكراً على ساعة الصفر، وإذا بمفرزة من قوات الشرطة المجهزة بالأسلحة، تتوزع في الشارع المقابل لذلك المدخل أو بمحاذاة سياج "بهو الأمانة" القريب، وتأخذ أوضاعاً قتالية، وكأنها تستعد لمواجهة معركة مع فرقة أعداء كاملة. وكانت الرشاشات والبنادق موجهة إلى مدخل الكلية، وهو مجاور لمدخل المستشفى الملكي (المجيدية سابقا). تفاوضنا أولاً مع قائد المفرزة، ليسمحوا لنا بالخروج باعتبار أن مظاهرتنا سلمية. قال بأدبٍ وحَرَج: أنا مضطر لتنفيذ الأوامر بمنع أي مظاهرة بجميع الوسائل. وبعد أخذ ورد، بدون جدوى، بدأنا المناوشات بقذف الحجارة على الشرطة، وكنـّا لا نتجاوز الأفراد. ومن الطلاب الذين أذكرهم في الصفوف الخلفية "خلوق أمين زكي:، الطالب ربما في كلية الحقوق. ولكن الشرطة واجهتنا بإطلاق الرصاص. فتحمسنا أكثر، وكنتُ في مقدمة عدد جدّ قليل، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو أقل، من المتظاهرين المتحمسين. وأتذكر بوضوح أن الطالبة سميرة صبحي أديب (الدكتورة فيما بعد، وزوجة المرحوم الدكتور قتيبة الشيخ نوري)، كانت تحاول تهدئتنا خوفاً على حياتنا من" هؤلاء المجرمين"، على حد قولها. كما كانت المرحومة فاطِمة الخِرسان (دكتورة/ طبيبة فيما بعد)، تساعدنا فتقدم لنا الحجارة المناسبة للرمي، وتحاول أن تكسِّر قطع الآجر(الطابوق) الذي انتزعناه من سياج الكلية، كذخيرة حيّة، كما تشارك أحيانا في قذف الحجارة من بعيد، وهي تتستر بالسياج.

وفي أحدى المرات التي كنت فيها أتقدم بل أتقحم وأقذف الحجارة، كما قال الجواهري:

تقحمْ، لـُعنتَ، أزيز الرَصاص،

وجرب من الحظ ما يـُقسمُ

فإما إلى حيث تبدو الحياة

لعيـنـيـك مـَكـْرُمة ً تـُغنمُ

وإما إلى جَـدَثٍ لم يكن

ليفضُله بيـتـُك المــُـظلمُ ؛

كان الرصاص يُلَعْلِعُ، وكنت في المقدمة مع طالب آخر يتأخر عني خطوة أو خطوتين فقط. وحدث الـمـُصاب!!!. حدث ما كنا، في نفس الآن، نتوقعه ونستبعده، مأخوذين بحماسنا لقضية تحرير أمتنا بأي ثمن؛ ولكن فورة الحياة Elan Vital في هذا السن ووعي الإنسان، بعمقٍ طاغٍ، بوجوده العامرِ والغامرِ، كجزء من غريزة المحافظة على الحياة نفسها، يجعلك تستبعد الموت، أو لا تتخيل حقيقته، الذي يمكن أن يكون أقرب إليك من حبل الوريد، لاسيما في هذا الموقف الخطِر، بل المتفجر.

ما يزال أزيز الرصاصة التي أخطأتني، يرن في أذني، وكأنني على موعد معه في مثل هذه الأيام من الشهر الأول من كل عام، منذ قرابة سبعة عقود ً. وأتذكر بوضوح أنني كنت أول المتقدمين وأكثرهم حماسة ً، لكسر الحصار فتجاوزت السياج وأصبحت في منتصف الشارع العام تقريبا وخلفي أحد الطلبة، حتى أصبحتْ المسافة بيني وبين خط النار بضعة أمتار. وفجأة وجدتُ عيني تلتقي بعين أحد أفراد الشرطة، وقد كنتُ قد أصبته إصابة خطرة في رأسه. وكانت الدماء تسيل فتغطي كامل وجهه تقريبا ً. رأيته والشرر يتطاير من بقايا ناظريه، وهو يصوِّب بندقيته نحوي، فأيقنت أن هذه نهايتي. ودوّت الرصاصة القاتلة، التي سمعت فحيحَها صارخاً في أقل من جزء من لحظة، وهي تمر من طرف أذني اليسرى، فأصابت رأس زميلي الذي كان يتبعني مباشرة. أقول؛ ما يزال ذلك الأزيز الصارخ والقاتل يعصف في أذني، ويثير في أعماقي مشاعر يختلط فيها القدَر والإرادة العلوية والمصير المحتمل أو المحتوم، فضلاً عن تساؤلات مرهِقة، ما تزال تعذبني في مثل هذه الأيام من كل عام، أقول تساؤلات في سرّ الوجود وحكمته وسرّ الموت وحقيقته، والتطلع نحو الخلود، غير الموجود أصلاً، بالمفهوم العلمي، لأن العالم والكون في تغير متواصل دائما، بل في كل لحظة، بينما الخلود ثبات(ولكنني أستدرك فأقول في سري: أن الله على كل شيء قدير). وأتساءل هل أخطأتني تلك الرصاصة عمدا ًأو صِدفة، لتستقر في رأس صاحبي الشهيد الذي كان يتبعني مباشرة، فكتب الله ليّ الحياة وكُتب له الموت، الذي كان بيني وبينه ربما أقل من شعرة؟ (ومن حبل الوريد). وهل أنا أسعد منه حظاً أم العكس هو الصحيح لأنه مات شهيداً؟ وما الفرق بين أن يـُقتل الإنسان، أو يستشهد قبل العشرين أو يموت في ما بعد الثمانين، إذ "كل نفس ذائقة الموت"؟ ". يقول الشاعر:

"ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحدُ".

وهل أكرمني الله بهذه الِنعمة أو عاقبني؟ أليس من الأشرف والأكرم والأسمى، أن يموت الإنسان واقفا ً شامخا ً مكافحا ً في سبيل إعلاء كلمة الحق، من أن يقضي نحبه، ضعيفا ً عليلا ً مستلقيا ً على فراش الموتً، وهو في أرذل العمر؟ أي كما يقول خالد بن الوليد: "يقضي على فراشه كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء". وماذا جنيتُ فعلا ًمن هذه الأعوام السبعين الزائدة التي عشتها؟ ولئنْ لم أجنِ منها شيئاً يُذكر، على الصعيد الشخصي، فهل استفاد منّها بلدي أو مجتمعي أو قومي أو البشرية، ما يكفي، لتبرير بقائي على قيد الحياة، كل هذه السنين؟ وماذا جنينا خلال هذه الفترة الطويلة من كل ذلك النضال والتعرض لأفدح الأخطار، من نتائج على صعيد تحسين الأوضاع وتقدم الأمة العربية التي ازدادت تخلفاً، بل دخلت في جحيم "الفتنة الكبرى" من أوسع أبوابها وأخطرها، ما يهدد بانقراضها. (انظر كتابي" الأمة العربية بين الثورة والانقراض" على الرابط المجاني: https: //drive. google. com/file/d/0B7-yP9NKQgUrR1lITUlkNmUyWjA/view?usp=sharing

* *

توقفتُ مؤقتاً عن الرمي بالحجارة وانسحبتُ إلى داخل سياج الكلية، بينما توقف إطلاق النار. ثم جاء أحد موظفي الكلية الطبية (أو ربما طالب، لا أعرفه) يرتدي الكفوف الطبية، ويحمل إناءً طبياً وقطعة من "الكوز"، (نسيج قطني معقَم عادة) فجمع الدماغ، من على بلاط الشارع وذهب به إلى عمادة الكلية، ثم عاد بعد فترة قصيرة ليعلن، وهو ينتحب، عن استنكار العميد الدكتور هاشم الوتري واستقالته مع الهيئة التدريسية. وعلمنا بعد انتهاء الأحداث أن مدير الشرطة العام بعث إلى عميد الكلية الطبية برسالة يعتذر فيها عن الحادث المحزن ويضيف أنهم قاموا بتشكيل لجنة للتحقيق في أسباب مقتل هذا الطالب. ولكننا لم نسمع شيئا عن نتيجة التحقيق، الذي أعتقد أنه لم يحصل أصلاً.

هذا الحدث زادنا تحمساً. ومع توقف إطلاق النار، واصلنا رمي الحجارة بشدة، فانسحبت قوات الشرطة فجأة. وهكذا انتصرنا بعد مقتل هذا الشهيد المجهول الذي لم أعرفه. فانطلقنا راكضين وهاتفين في الشارع المؤدي إلى ساحة الباب المعظم القريبة، حيث كانت مفرزة شرطة أخرى تحاول صدنا فتطلق الرصاص كيفما اتفق. ولاحظت بعض جثث القتلى متروكة في الشارع. وهنا استبشرت بانضمام بعض المواطنين العاديين الذين أخذوا يقذفون الحجارة معنا. على قوات الشرطة فأخذت أشجعهم: وأصرخ بهم: " (عفية عفية عيوني، شوية ساعدونا يا أخوان، هذا وطنـّا كُلْنا)" وما إلى ذلك، بقدر ما أتذكر تقريبا (عفية، معناها أحسنتم، أو بخٍ بخْ، وشوية، معناها قليلا). وأقبلت على أحد الذين يقذفون الحجارة، وكان في ثياب رثّة وقذرة، وأنا أضحك ضحكات هيستيرية، ودموعي تنهال في نفس الوقت، أُعانقه وأُقبله وأُوَلْوِلُ بعبارات، ربما خليط من التشجيع والترحيب والنخوة والحماس. وعندئذ انسحبتْ قوات الشرطة بسرعة أيضا مخلفة عربة شرطة حاولنا إشعال النار فيها فتفجرت بعد لأي.

وسرعان ما أصبحت ساحة باب المعظم الشهيرة، التي تقع فيها المكتبة المركزية العامة وتتفرع منها عدة شوارع مهمة منها شارع الرشيد، وشارع غازي، والشارع المؤدي إلى الأعظمية، والشوارع الأخرى المؤدية إلى حيّ الكليات العليا، أقول هذه الساحة غدت تغص بالجماهير الغاضبة والهاتفة مثلاً، باللهجة العراقية الـمُنَغـَّمة: " نوري السعيد القُندَرة" فيجيب فريق آخر"صالح جبر قيطانها". أي "نوري السعيد الحذاء وصالح جبر شريط الحذاء أو مشدّه".

ومما يستحق التسجيل والفخر، أنه خلال جميع هذه الوقائع، وأثناء أيام الوثبة العاصفة والدامية، التي استمرت حتى أواخر كانون الثاني/ يناير، لم تحصل حسب علمي، أية حوادث سلب ونهب للمحال التجارية الكبرى، التي كانت مملوكة لشركات أجنبية أو لليهود العراقيين، والتي يعجُّ بها شارع الرشيد، وأسواق بغداد الفرعية الحافلة بالسلع المختلفة. علماً أن قوات الأمن والشرطة اختفت تماماً من الشوارع الكبرى في العاصمة التي احتلتها الجماهير الغاضبة.

مرة واحدة لاحظت أن شاباً من المتظاهرين، كان يعدو قريباً مني في وسط شارع الرشيد، المقفر تماماً من حركة مرور السيارات والعربات وقوات الأمن طبعاً، قذف حجراً نحو الواجهة الزجاجية لمحل تجاري كبير. فتملكني الغضب وقفزت نحوه آخذاً بتلابيبه: وصرخت بوجهه" لماذا فعلت ذلك؟ فأجاب: "إنه يعود لمالك يهودي ". فأجبته" يا أخي، أنت تشوّه المظاهرة بهذا العمل الشنيع" فتوقف.

ولا بد أن أشير بإكبار إلى أن موقف أُسرتي، من نشاطي هذا، كان متسامحاً جداً، مع انهم كانوا قلقين إلى أقصى حدّ على ولدهم الوحيد. فلم يؤنبونني على التسلل في ظلام الليل والخروج. بل كانت أمي تستعطفني، وتذكـّرني أنها ستموتُ حُزناً إذا حدث لي عارضٌ، وتقول إنني أصلي وأدعو الله أن يحرسك. ولكنها قالت لي، فيما بعد، أن أباك قال لي أنه كان يتمنى لو يكون قادراً أن يشارككم في هذه التظاهرات.

وأتذكر أنني عندما عدت في مساء اليوم الأخير الحاسم (27 كانون الثاني/ يناير 1948) إلى البيت، منهكاً، وقد عضني الجوع الشديد والإعياء البالغ، بعد أن قضيت طيلة ذلك اليوم في التظاهر مع مئات الآلاف من الحشود من جميع طبقات الشعب، بادرني أبي بالتهنئة على نجاحنا بإسقاط حكومة صالح جبر، وكانت أمي "تهلهل" (تُزَغْرِد) وهي تستمع إلى البيان الذي أذاعه الوصي باستقالة حكومة صالح جبر.

وهنا ينبغي أن نتأمل بدقة موقف هذه الأسرة التي تمثل نموذجاً لمعظم الأسر الشيعية المحافظة، من الطبقة المتوسطة، التي كرهتْ هذا الرئيس (رغم شيعيته) لأنها تعتقد أنه خان شعبه، ولا تفكر أصلاً بتقييمه بناء على مذهبه. ولم يُشر والدي في أيٍّ من أحاديثه المسهبة معي، حول الوضع السياسي العام، إلى هذه النقطة أصلاً. بل كان يشجب بشدة سياسة صالح جبر. وأتذكر أنه ألقى قبل ذلك بسنين قصيدة تمجيدية عامرة من إذاعة بغداد بمناسبة انقلاب رشيد عالي الكيلاني في مايس 1941، على الرغم من أن رشيد عالي سنيٌ.

وفي نفس تلك الليلة، التي كانت من أسعد الليالي في حياتي، عُدت أدراجي إلى الباب الشرقي، في مركز العاصمة، وأنا ألتهم (لفّتي) التي زودتني بها الوالدة) رغيف الخبز العراقي الطازج الذي ينطوي على شيشين كباب بغدادي(كفتة كباب) (مع السماق والكراث والنعناع والمعدنوس)، بشهية عارمة.

وفي الباب الشرقي وجدت الجموع محتشدة تهتف: "فاليحية وصينا سـًقـّـط الخاين"، أي (ليحيا وصيُنا لأنه أسقط الخائن) ثم تخاطب صالح جبر متسائلة" وين تنام هالليلة؟!!" كل ذلك بترنيم مُلَحنْ، نسميه بالعراقي "بَسْتَة". ربما تقابل في اللهجة المصرية "طقطوقة". بقيتُ أحتفل مع تلك الجماهير الحاشدة حتى ساعة متأخرة. واستمرت الاحتفالات حتى الصباح.

ولم يظهر أثناء هذه التظاهرات، في تلك الليلة التي لم تنمْ فيها بغداد، أي من قوات حفظ الأمن والنظام. ومع ذلك أكرر أنني لم أشهد ولم أسمع بحصول أي اعتداء على الأموال العامة أو المحلات التجارية العامرة بالسلع والمواد الثمينة، في تلك الليلة المشهودة. وهذا يدل على وعي الجماهير وترفعهم عن القيام بأي عمل يشوِّه وثبْتهم الظافرة.

[1] يمكن الحصول على نسخة من الرابط التالي::

https: //drive. google. com/file/d/0B7-yP9NKQgUrZHdPdlZCSUtPYTg/view?usp=sharing

[2] ("العراق في التاريخ" مجموعة مؤرخين، بغداد، دار الحرية، 1983، ص722)