محاولة لتطبيق نظرية توينبي في التحدي والاستجابة

بقلم الأعرجي

أرنولد توينبي، رائد فلسفة التاريخ الأشهر في العصر الحديث، له نظرية خطيرة بشأن تدهور حضارات بعض الشعوب وانبعاثها في شعوب أخرى، قد يمكن تطبيقها و/أو رصدها إزاء الأحوال والكوارث التي تمر على الأمة العربية، منذ منتصف القرن الماضي، ابتداءً من نكبة فلسطين إلى حروب الخليج وحصار الشعب العراقي، وتجريح وإذلال شعب العراق وتقتيل أطفاله بالمئات يوميا – حوالي 500 طفل يوميا – تحت سمع العالم وبصره، وباسم الشرعية الدولية ومباركة الأمم المتحدة، مما لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث على الأقل.

وتتلخص هذه النظرية، التي شرحها توينبي أولا في سِفره (بكسر الأول) الكبير “دراسة للتاريخ”Study of histoory الذي يتألف من ثلاثة عشر مجلدا، بأن الشعوب قد تتعرض لتحديات طبيعية أو بشرية، وقد تستجيب لتلك التحديات إما على نحو إيجابي أو سلبي. ففي الحالة الأولى، قد تتمخض الكارثة التي تصيب ذلك الشعب عن نهضة أو حتى حضارة جديدة، وفي الحالة الثانية قد تؤدي إلى إزهاق روح تلك الأمة أو إبادتها، كما حدث لدى سكان أمريكا الأصليين مثلاً، أو إحالتها إلى شراذم بدوية متخلفة، كما سنعرض أدناه.

ولإثبات نظريته هذه يورد عدداً من الأمثلة والحالات التاريخية الثابتة يحللها في ضوء تلك النظرية منها على سبيل المثال:

السهل الأفروآسيوي، الممتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى الخليج العربي شرقاً، أي ما يسمى اليوم الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، كان يتمتع بمناخ معتدل وجو ممطر في جميع فصول السنة، ومراعٍ غنيةٍ بثمارها، وأنهارٍ جاريةٍ (وبهذه المناسبة فقد علمت مؤخرا أن الرصد الجيولوجي والتضاريسي لشبه الجزيرة العربية الذي يجري بين المركبات الفضائية، قد كشف عن آثار نهر عظيم كان ينبغ من الجبال المحاذية للبحر الأحمر ويصب في الخليج العربي). وحدث ذلك في الحقبة الدفيئة الرابعة والأخيرة التي بدأت حوالي 15000 سنة قبل الميلاد، والتي أعقبت دورة "ورم" الجليدية التي استمرت حوالي 100 ألف سنة قبل ذلك (انظر أيضا أحمد سوسة، حضارة وادي الرافدين بين الساميين والسومريين، ص8).

لذلك فإن سكان تلك المناطق كانوا ينعمون بذلك المناخ وثماره الطبيعية فيعتاشون عليها بالإضافة إلى قنص أو صيد الحيوانات البرية التي كانت وافرة، وذلك قبل أن تُكتشف الزراعة. وتدريجياً بدأ الجفاف يحل في منطقة السهل الأفروآسيوي هذا، وبدأ التصحر ينتشر ويصيب معظم الأراضي الخضراء.

ويورد توينبي هذا الحدث كمثال على الكارثة الطبيعية التي اعتبرها “تحدياً” أدى إلى استجابات مختلفة: فكثير من السكان هاجر إلى مناطق الأنهار الكبرى – وادي الرافدين ووادي النيل – ما أدى إلى اكتشافهم الزراعة فالاستقرار في الأرض وإنشاء القرى فالمدن، ما أسفر عن انبثاق أول الحضارات العظيمة في التاريخ، وهذه استجابة ناجحة. في حين ظل فريق آخر في موطنه الأصلي، فأصبح أفراده بدواً رُحَّلاً، ينتقلون مع مواشيهم بحثاً عن الماء والعشب: وهذه استجابة سالبة، لأن حياتهم لم تتطور خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة. ولم يقدموا للبشرية أي ناتج حضاري. في حين أقرانهم الذين رحلوا إلى مصادر المياه تطوروا وأقاموا أول الحضارات.

أما ظهور الإسلام في مكة فيعتبره توينبي استجابة ناجحة، ولكنها لم تكتمل إلا بعد أن انتقلت إلى مصادر المياه واستقرت في بلاد الرافدين حيث حققت حضارة متميّزة.

كان هذا مثالا على التحدي الطبيعي للمجتمع الذي أدى إلى استجابتينِ؛ إحداهما فاشلة والأخرى ناجحة.

أما التحدي البشري، فيورد توينبي عليه مثال اليابان الذي أخذ بأهم عناصر الحضارة الغربية، أي “العلم والتكنولوجيا”، بعد أن تحداه الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويقول في هذا الصدد “وهكذا فإن تبني رجال الدولة في الشرق الأقصى للتكنيك الغربي في القرن التاسع عشر كان يعتبر شراً لا بد منه. وهذا يُفسرُ لنا لماذا أخذوا في تلك الحقبة عن الغرب ما كان يبدو لهم بالغ الضرر. ولكنه مع ذلك أفضل من الاحتلال والخضوع لإرادة الأجنبي الغربي، كما حدث في الهند الصينية والهند وأفريقيا وغيرها ….

“لقد قرروا إذن أن يتبنوا أسلحة هذا الغرب لتكون درعاً واقياً عسكرياً وسياسياً” (توينبي، كتاب العالم والغرب، الترجمة العربية، ص21).

ويمضي توينبي في عرضه قائلا: “أما العالم الإسلامي – بما فيه العالم العربي – فإنه يواجه اليوم التحدي الغربي بطريقتين، الأولى سلفية منغلقة – استاتيكية – تمثلها الحركات السلفية والدينية الحديثة المنتشرة في سائر أرجاء المشرق الإسلامي، (وقد تفاقمت هذه الحركات اليوم [منتصف 2016] مئات المرات) والأخرى تقدمية منفتحة – تحاول أو تواجه الغرب بنفس أسلحته – وتمثلها حركة محمد علي في مصر وما جرى مجراها من حركات وانتفاضات قومية حديثة. ويرى توينبي أن الموقف السلفي يمثل انحلالاً حضارياً، بينما يمثل الموقف التقدمي حركة ديناميكية جديرة بالتقدير، إلا أنها مع ذلك استجابة محدودة النجاح يتعذر عليها الوصول إلى الإبداع والمشاركة الحضارية الفعلية (انظر مُنَح خوري، "التاريخ الحضاري عند توينبي").

وهكذا نحن نتفق مع توينبي في رأيه هذا الذي يؤكد أن هذه الاستجابة الإيجابية التي شرع بها محمد علي الكبير، واستكملها عددٌ من المفكرين والقيادات الوطنية (عبد الناصر مثلاً)، لم تكن كافية للنهوض بهذه الأمة بدليل ما آلت إليه الأوضاع الكارثية الراهنة.

ذلك لان هذه المحاولات لم تتمكن من القضاء على علة التخلف الحضاري" التي تشكل أسّ المشاكل. وفي هذا السياق يقول قسطنطين زريق “لا جدال في أن هذه العلة الأساسية – علة التخلف – هي مبعث العلل الأخرى التي انتابتنا، ومصدر المصائب التي حلت بنا، فلولاها لما خضعنا أصلاً للاستعمار ولما تفشى فينا الفقر والجهل، ولما نكبنا في فلسطين وفي غيرها من الميادين ولما تعثرت خطانا في طريق التعاون والاتحاد …” (كتاب "في معركة الحضارة"، ص 390).

وأظن أن من أهم أسباب فشلنا في القضاء على هذه العلّة هو أن مشكلة تخلفنا قضيَّة “مركبة”، بمعنى أننا متخلفون في إدراك تخلفنا، بل في فهم عمق تخلفنا، وتشعبه، وانتشاره، وتجذره، بل وأكثر من ذلك فنحن نخادع أنفسنا أو نتصور بإخلاص وسذاجة أننا “خير أمة أخرجت للناس” وننسى فعل الكينونة “كنتم” قبلها. كنّا، نعم، ولكن هل ندرك كيف أصبحنا؟!

يُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، قوله إن “الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فهو عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهو غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهو جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهو أحمق فاجتنبوه”.

ينبغي لنا أن نقرَّ، قبل كل شيء ونتفهم بعمق أن صراعنا مع الغرب وإسرائيل هو صراع حضاري، في المقام الأول. وإن من أهم أسباب فشلنا، حتى الآن، في تحقيق استجابات ناجحة، هو جهلنا المركب، أو تخلفنا غير المعترف به من جانبنا، باعتبار أن هذا الفهم يشكل الشرط الأساسي لبحث وسائل مواكبة المسيرة الحضارية المتسارعة، بوتائر هائلة التعجيل، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة اتساع وتعميق الفجوة القائمة بيننا وبين العالم المتقدم في كل لحظة. ويسفر بالتالي عن زيادة الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، وحتى العسكرية، كما يحدث الآن في الوطن العربي بالفعل. ومن جهة أخرى فإن الاعتراف بخطورة هذا الداء المزمن (إدراك التخلف والاعتراف به) وتفشيه على نطاق واسع في جميع أرجاء الوطن العربي، وفي مختلف أوساطه، بما فيها قياداته، بل حتى بين قسم كبير من متعلميه ومثقفيه، يعتبر الخطوة الأولى لتشخيصه، ولربما وصف الدواء الناجع للخلاص منه.

وفي هذا السياق يرى توينبي في كتابه “العالم والغرب”، أن الطريقة المثلى لمحاربة الغرب أو التصدي لعمليات اغتصابه واستغلاله الشعوب والأراضي والثروات هي تبني أيديولوجيته التقنية وأسلحته نفسها، ويقصد: أسلحته الحضارية. ويقول في مواضع أخرى “حاربوا الغرب بذات أسلحته”، لذلك نرى أن اعتماد العقل والعلم والثقافة وحريّة الفكر والإرادة، وحرية التعبير– تعتبر من أهم الأسس التي تفتح لنا الطريق لتغيير الوضع الراهن إلى ما هو أفضل، ولوقف عملية تدهورنا المستمر، وقبل أن نتردى أكثر وأكثر في هاوية التخلف والتبعية والاستغلال والاحتلال المباشر أو غير المباشر، وبذلك نكون قد حققنا استجابة عقلانية ناجحة، وألا “فالشعب الذي لا يقدر العقل المدرب حق قدره شعب مقضي عليه حتما ً” كما يقول وايتهيد (WHITEHEAD).

ولئن طرح مشروع المؤسسة الموسوعية في المهجر، بكل تواضع، هذه الأهداف الطموحة، فإن هذا الطرح يذهب الى الاعتقاد بأنه قد يتسنى للأمة المهاجرة أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه الأمة المقيمة، بسبب المؤامرات التي تحاك ضدها من الخارج، والقهر الذي تتعرض له من الداخل، في حين أن المثقفين العرب المقيمين في أوروبا وأمريكا يتمتعون بحرية عملية وفكرية واسعة فضلا عن تماسهم المباشر بمظان العلوم والمعارف، بحكم أعمالهم واختصاصاتهم المتنوعة، وخاصة العلمية والتقنية لذلك فإن القصد الذي تستهدفه مؤسسة الموسوعة، ليس فقط إرساء قاعدة تعليمية تربوية متطورة من خلال إصدار الموسوعة ذاتها، بل تشييد منبر فكري خلّاق، يتعرض لمختلف المسائل المطروحة على الساحة العربية، بحرية وموضوعيّة وصراحة، فضلاً عن السعي لعرض القضيّة العربية على المحافل الغربية، والدفاع عن قضية هذا الشعب المهدورة، بكفاءة عالية.