نحو تشييد إنسان عربي جديد

علاء الدين صادق الأعرجي

تفترض هذه السطور أن أهمّ سبب لجميع خيباتنا، بل نكباتنا، التي ظلّت تتزايد وتتفاقم، ولاسيما منذ أواسط القرن الماضي، هو "التخلف الحضاري". أي عدم مواجهة الحضارة الحديثة (الحداثة)، بما تستحقّه من اهتمام نقدي، رصين الأسس وعميق الغور، يكشف حلوها ومُرّها. وفي عين الوقت يغترف؛ من نهضتها الفكرية والفلسفية، والعلمية والتكنولوجية الراهنة، التي تزداد تفجراً في كل يوم؛ لُــُــًبّــها وجوهرها. بيد أن العرب ما برحوا، بكل أسف، غائبين عنها جذرياً، مستهلكين لها سطحياً؛ في الوقت الذي يكررون بدون ملل، ما يعتقدون أنه تراثهم المجيد، ويقتتلون بسببه، إلى حدّ الفناء أحياناً، أو تفتيت الأوطان المجزّأة أصلاً، فيُصَفِّـقُ الأعداء استحساناً. "يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعلُه العدو بعدوهِ".

أن المقاومة الفكرية الرامية إلى تجديد الذات، في سبيل إنتاج إنسان عربي جديد، يجب أن تتجشّم نقد الذات على الصعيد العام؛ ونقصد به نقد "العقل المجتمعي" (بتعبيرنا). أما على الصعيد الخاص، فنقصد به نقد "العقل العربي المنفعل" بـ"العقل المجتمعي العربي" السائد؛ الماضوي المتخلف. وهو متخلّف، لأنه ظلّ متمسّكاً بأمجاد ماضيه التليد، الذي يسمّيه الجابري بحق "الماضي الحاضر". وهنا تدخل عبارة "المعرفة التاريخية للذات" في سياقها المناسب، إذ تعني "أننا فشلنا في تحديد موقعنا في التاريخ"، ما أدّى إلى فشلنا في مواجهة إشكالياتنا ومعالجتها بحسِّ تاريخي ناضج. ذلك لأننا ما زلنا نتوق إلى/ بل نعيش في ظلّ عصر "الرسالة" أو "عصر الخلافة الراشدة" أو "خلافة عمر بن العزيز"؛ علماً أن عُمْر هذه الفترة، التي يفترض أن تكون مثالية، يقلّ عن خمسين عاماً، من مجموع أكثر من ثلاثة عشر قرناً، هي مجموع حكم الإسلام، الذي أصبح، بعد الخلافة الراشدة، "مُلكاً عضوضاً"، بإجماع المؤرخين، وتأييد رجال الدين، الذين قالوا "مَنْ اشتدتْ شوكته وجبتْ طاعته". علماً كذلك، أن ثلاثة خلفاء قتلوا خلال تلك الفترة، التي قد تُعتبر مثالية عند الماضويين. كما نشبت خلالها حروب ضارية بين صحابة الرسول(ص).

وهنا أتفق مع المؤرخ الموسوعي أرنولد توينبي Arnold Toynbe (1975 -1889)، في تفسير هذه الظاهرة الماضوية، الطاغية على الإسلامويين، بوجه عام، بالاستعانة بنظرية كارل يونغ Carl Jung (1875-1961) من المدرسة السلوكية في علم النفس الذي يقول فيها إن بعض الأفراد الذين يتعرّضون لصدمة عنيفة في حياتهم يستجـيــبون لها بطريقتين: إما بالنكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسك به تعويضاً عن واقعهم المرّ، أو يسعون إلى تَـَقَبُل الصدمة والاعتراف بها، بل مواجهتها بـ"عقل فاعل" (بتعبيرنا)، يحاول التغلب عليها وعلى نتائجها. وواضح أنّ العرب كانوا من الرعيل الأول.

وهكذا، نحن "لا نعرف أنفسنا معرفة تاريخية، ولا نقارب مشكلاتنا إجمالاً بلغة التاريخ والمعرفة وتطوّرها؟"، كما يقول السائل.

وبغية توضيح ما يقصده السائل بهذه العبارة الأخيرة، أقول إن "العقل المجتمعي" العربي الإسلامي (بتعبيرنا)، هو عقل يميل إلى أن يضع الحاضر في إطار الماضي، أي يقيس أحداث الحاضر على أحداث مشابهة في والحاضر هو الفرع، وهذا بالضبط هو السبب الرئيس لتخلفنا الحضاري، أصل الداء الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من ضعف وتمزق.

لذلك يرى الجابري "إن الثقافة العربية ذات زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم، مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية"

"المقاومة الفكرية" بمعناها العام، ولاسيما المعرفية/ العلمية والعملية، قد تكون أجدى وأمضى من أيّ مقاومة أخرى. وبهذا الشأن، يعبّر المؤرخ أرنولد توينبي في كتابه "العالم والغرب"، موجها ًنصيحته إلى بلدان العالم الثالث، بما معناه "قاوموا الغرب بأسلحته ذاتها"، يقصد به "التكنيك الغربي"، كما يسميه المترجم، وهو لا يقصد أسلحته الحديثة فقط، بل تقدمه الحضاري على مختلف المستويات. معنى ذلك أننا يجب أن نواجه قدراته العلمية والمعرفية بقدراتنا الـمُناظِرة، وهنا ينكشف عجزنا وفشلنا.

وهكذا أرى أن "المقاومة الفكرية"، تتضمن جوانب عدة، أو بالأحرى مفاهيم عدّة:

المفهوم الأول: "المقاومة الفكرية" للغزو الثقافي الخارجي الذي يحاول القضاء على الهوية العربية، ثقافياً ومشاعرياً، أيّ القضاء على الشعور بالانتماء إلى وحدة التراب واللغة والثقافة.

و"المقاومة الفكرية" الناجحة للغزو الثقافي الخارجي، تتوقف على مدى قوة سلاحنا المعرفي والفكري، القمين بمواجهة الآخر. أيّ أن يضاهي سلاحنا سلاحه، على الأقل. وهذا غير مُتاح حالياً، بل نحن بعيدون كل البعد عنه، علميا ً، وبالتالي عمليّاً وتنظيميّاً. لذلك أصبحنا لقمة سائغة له (الآخر). بل نحن الذين نقلده طوعاً، في معظم مناحي حياتنا الخاصة والعامة. ويا ليتنا قلّدناه في لُباب حضارته وتقدّمه، ولكننا غالباً ما نقلّده في قشورها.

المفهوم الثاني للمقاومة الفكرية

ويمكن تقسيمه كذلك إلى قسمين: مباشر وغير مباشر. الأول يعني، استقاء أكبر قدر ممكن من الفكر الحداثي النقدي العميق، بما فيه العلوم والمعارف بوجه عام. وإعادة النظر في تربية الجيل الجديد على أساس العقلانية وحرية الفكر، والجرأة في طرح الأسئلة الممنوعة أو المقموعة. أي إنشاء "إنسان عربي جديد" ذي عقل فاعل لا منفعل. وهكذا ينبغي تغيير فلسفة التربية من كونها تنشئ جيلاً منسوخاً من الجيل السابق، (أي نعيد إنتاج التخلف) كما يحدث اليوم، أي جيل لا يختلف عن سابقه، إلى جيل مختلف. أي نحن نسعى إلى تطبيق مبادئ تربوية لا تعلّم الناشئ الترديد والتقليد، بل تعلّمه النقد فالتجديد. لذلك يجب تغيير مناهج التربية والتعليم، من مرحلة الروضة إلى مرحلة الجامعة.

أما المفهوم غير المباشر لـ"المقاومة الفكرية" فيتجلى، كما أرى، بأعمال مختلف المفكّرين الحداثيين المعنيين بتطوير المجتمع العربي المعاصر وتحديثه. نذكر منهم على سبيل المثال فقط: ابتداء من الطهطاوي ومروراً بالكواكبي وقاسم أمين وشبلي الشميّل وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فسلامة موسى وطه حسين فزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وقسطنطين زريق وجورج طرابيشي وصادق جلال العظم وهشام شرابي وعلي الوردي ومحمد جواد رضا، وانتهاء بنصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وهشام جعيّط... وغيرهم.

ولكن ما السبيل لإنتاج نظريات وآليات لتحقيق "مقاومة فكرية" عربية فعّالة؟

هزيمة الـ 67، كانت بمثابة هِزة شديدة، بل صدمة عنيفة. قُلْتُ لنفسي ولأصدقائي، ثم كتبتها في مقالاتي، إنها ليست هزيمة عسكرية فحسب، بل هي هزيمة حضارية، بكل معنى الكلمة. وتذكّرت مقولة قسطنطين زريق أن جميع النكبات والخيبات التي أصابت الأمة العربية سببها التخلّف الحضاري.

وهكذا شعرتُ أننا جميعاً مسؤولون عن وصول أمتنا إلى هذا الحضيض، ولاسيما المثقفين ورجال الحكم. فإذا خاب أملُنا في المسؤولين من رجال الحكم، فلا بدّ من اللجوء إلى المثقفين. (أنظر كتابي "في مواجهة التخلف".)

ومع احترامي وتقديري الشديد لمعظم المفكّرين العرب والأجانب الذين قرأتهم، بيد أنني شعرتُ أنني قد أتمكّن من تقديم أفكار جديدة متواضعة عن الأسباب الجذرية لتخلفنا الحضاري الذي أعتبره موطن الداء، فتوصّلت إلى ثلاث نظريات يمكنني أن أُحاجج، بأنها جديدة على الفكر العربي، وليست مقتبسة من الفكر الغربي، ولكنها قد تتقاطع مع بعض النظريات العالمية. كما أعتبرها تشخّص الداء بدقة كافية. كذلك تُعَـبِّر هذه النظريات عن "المقاومة الفكرية"، بامتياز، ما قد يمكن اعتبارها، هيَّ والمشروعات العملية الأربعة المشروحة في ملحق كتابي "الأمة العربية بين الثورة والانقراض" ؛ أقول اعتبارها جزءاً أساسياُ من "المقاومة الفكرية" التي قد تسهم في بناء "إنسان عربي جديد"، على النحو الذي تطرحه "مؤسسة الفكر العربي" في مؤلفها الجماعي.

هذه النظريات هي:

نظرية "العقل المجتمعيٍSocietal Mind " ونظرية "العقل الفاعل والعقل المنفعلActive Mind and Passive Mind"، ونظرية "عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة".

ومع أن هذه النظريات مشروحة بالتفصيل في مؤلفاتي، بيد أنني سأحاول إيجازها فيما يلي؛ بغية أن نجنّب القارئ الكريم مشقّة البحث والتنقيب.

أولاً: نظرية العقل المجتمعي:

مفهوم العقل المجتمعي

1- نحن نرى أنّ لكل وحدة مجتمعيّة (مجتمع) عقلاً خاصاً بها (أو به)، يتميّز عن العقول المجتمعية الأخرى، سمّيته "العقلَ المجتمعيّ". Societal Mind. لذا يصحّ القول إن العقل المجتمعي العربي يتميز عن غيره من العقول التي تتعدّد بتعدّد "الوحدات المجتمعيّة" (المجتمعات). ويجب أن نميّز هنا بين العقل البشري الواحد لدى جميع البشر، والعقل المجتمعي الذي يختلف باختلاف المجتمعات (الوحدات المجتمعيّة).

2- يتميّز "العقل المجتمعي" بأنه يحمل إرث الأمة أو بالأحرى إرث "الوحدة المجتمعيّة" التي يمثلها. وهذا أمر طبيعي، لأنه هو ناتج هذا الإرث الثقافي. وبعبارة أخرى، هو يحملُ مثلاً جميع ما مرَّ بالمجتمع (الوحدة المجتمعية الكبرى) من أحداثٍ وتجارب، منذ أقدم عصوره حتى اليوم، بل أكثر من ذلك، إنَّه يحملُ نتائج تفاعلات تلك الأحداث، التي لا نعرف عنها شيئاً، لأنـَّها ضاعت في بطون التاريخ غير المسجَّل وغير المعروف. وإذ لاحظنا أنَّ معظمَ تاريخ البشريَّة مجهولٌ، وأنَّ معظمَ تاريخ أيِّ مجتمعٍ ضائعٌ، فينبغي أن نعلمَ كذلك، أنَّ ذاكرةَ العقل المجتمعي تزدحم بهذه الحلقات الضائعة. لذلك علينا أن نـُحلـل "ذاكرةَ العقل المجتمعي" هذه، لعلنا نتوصَّل إلى تلك العناصر الضائعة من تاريخ البشريَّة.

3- "العقل المجتمعي" يمثل سلطة سائدة تتحكَّمُ بعقول وسلوكِ أفراد الوحدة المجتمعيَّة وتصرُّفاتهم، من حيث لا يشعرون في الغالب، وتتحكَّم باتِّجاهاتِ تلك الوحدة ككلّ.

4 - تتكوَّن بنْيةُ هذه السلطة من مزيجٍ مُتَفاعلٍ ومتكاملٍ أو متناقض لمنظومةٍ واسعةٍ من القِيم ِ والمبادئ والمفاهيم والأعراف والعادات والتقاليد والخرافات والأفكار والعقائد، التي تتحول إلى مُسَلَّمَات بما فيها الإيديولوجيَّات والتطلُّعات إلخ... السائدة في تلك الوحدة.

5- تَخلَّقَتْ هذه البنية، ثم تشكَّلت بإطارها الأخير، تبعاً "للسيرورة التاريخيَّة للوحدة المجتمعية وصَيرورتِها التطورية" وظروفِها الجغرافيَّة، خلال فترة طويلة من الزمن، أو بالأحرى منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا.

6- الفرد العادي يمتثل تلقائيّاً لموجبات "العقل المجتمعي" السائدة، بما فيها المعتقدات التي تغدو من المسلَّمات، بل يعتبرها تمثل آراءه الخاصة المقتنع بها فعلاً. فالشخص الذي يولد ويعيش، مثلاً، في كنف أسرة مسلمة سنيّة يصبح مسلماً سنيّاً عادة، وكذلك الشخص الذي يولد وينشأ في أسرة شيعيّة. وهكذا المسيحي أو اليهودي أو صاحب أي معتقد آخر. ولو تصوّرنا سيّدتين، مسلمة ومسيحية، في غرفة واحدة في مستشفى، ينجبان ولدين في وقت واحد تقريباً، فتخطئ الممرضة/ القابلة المسؤولة، فتعطي للمسيحيّة الولد المسلم، وللمسلمة الولد المسيحي. وينشأ أحدهما على حبّ الرسول عيسى (ع) بل يصبح قسّاً، وينشأ الثاني على حب الرسول محمد (ص) بل يصبح شيخاً، ثم يلتقيان في مناسبة معينة تتعلّق بـحوار الأديان. فلا شك أنّ كل واحد منهم سيعرض دينه الذي نشأ عليه، وكأنه أفضل الأديان. فلنتأمل!!

وبوجه عام، فإن الفرد العادي لا يختار معتقده (دينه) بعد دراسة باقي المعتقدات، بل يؤمن به، لأنه نشأ عليه، ولُــقّن به منذ الصغر. أي أنه مفروض عليه من العقل المجتمعي، ولا خيار له سوى اتباعه بعقله المنفعل الخاضع لسلطان العقل المجتمعي.

وكمثال واضح آخر على حالة يفرضها العقل المجتمعي على أعضاء "الوحدة المجتمعية"، نذكر حالة "القتل غسلا ًللعار"(المخالفة للشريعة الإسلامية) أو ما يسمى بـ"جرائم الشرف" المألوفة والمعروفة في العراق والأردن وسوريا، وفي معظم البلدان العربية والإسلامية. وهناك عشرات من هذه العادات والأعراف، أذكر منها التبرّك بقبور الصالحين لدرجة العبادة، وطلب الشفاعة منهم، والإيمان بالسحر والمعجزات، واحتقار المرأة أو اعتبارها مواطناً من الدرجة الثانية.

7- في الواقع، نحن جميعاً مستعبدون من جانب العقل المجتمعي، لا كعرب، بل كبشر، أينما كنّا؛ إذ تسري هذه النظرية على مختلف المجتمعات في كل مكان وزمان. ولكن الاختلاف يتجلّى بين المجتمعات المتخلّفة والمجتمعات المتقدّمة. ففي الأولى يكون العقل المجتمعي عاتياً، وفي الثانية يكون أكثر تسامحاً.

8- لئن تُعتبَر معظمُ محتويات العقل المجتمَعيّ جزءاً من اللاشعور الفرديِّ، بالنسبة إلى الأكثريَّة الساحقة من أعضاءِ "الوحدة المجتمعيّة"، فقد يظهر في بعض تلك الوحدات فردٌ أو أفرادٌ قلائل قادرين على نقد "العقل المجتمعي"، بل قادرين على تحدّي الأكثرية الساحقة في التمرّد على "العقل المجتمعي" وفضح عيوبه وأدرانه، بهدف تنبيه أغلبيّة أعضاء الوحدة المجتمعيّة إلى وجوده كسلطة قاهرة تسيطر عليهم، من حيث لا يشعرون. وهؤلاء من أُسمّيهم ذوي "العقل الفاعل"، (من أمثال الرسول محمد(ص) وسقراط ومارتن لوثر وغاليلي والوردي وأبو زيد وغيرهم) مقابل الأكثرية من أصحاب "العقل المنفعل:" (بل قالوا إنـّـا وجدنا آباءنا على أمّة وإنـّا على آثارهم مهتدون "(الزخرف، 21).

وعلى الأغلب، يتعرض هؤلاء الرواد الذين يحملون عقلاً فاعلاً، للاضطهاد من جانب السلطة الحاكمة، حاميّة "العقل المجتمعي". وغالباً من أكثرية أعضاء "الوحدة المجتمعية"(المجتمع)، بل يتعرضون للقتل( سقراط، (اليونان) القسّ جوردانو برونو(إيطاليا)، فرج فودة (مصر) محمود محمد طه(السودان)..).

شريعة "العقل المجتمعي" ترقى على الشرائع الوضعية والدينية

وأقدم هنا مثالين على سلطة العقل المجتمعي، قديما وحديثاً.

- مثال نظام "الفصل العشائري" الذي أصبح شائعاً في العراق بعدما ضعفت الدولة والقضاء.

- وحدث مؤخراً في محافظة البصرة، تسليم 50 امرأة من عشيرة (ألف) إلى عشيرة (باء) كـ"فصليّة" (كما تسمى)، تسويةً لنزاع حصل بين العشيرتين. (عقل مجتمعي سائد ومتخلّف) علماً أن هذا العمل مخالف للشريعة الإسلامية وللقوانين الوضعية. (انظر شبكة الإنترنيت).

- بعدما طعن أبو لؤلؤة الخليفة عمر في 23 ذي الحجة، سنة 23 هجرية، اشتمل نجله عبيد الله على سيفه، فقتل ثلاثة أشخاص (الهرمزان، جفينة، وابنة الفاتل أبا لؤلؤة)، وهذا مخالف للشريعة التي تقول "لا تزر وازرة وزر أخرى" (النجم 38). ومع ذلك عفا عنه الخليفة عثمان. هذه الحادثة المعروفة التي وردت في مختلف كتب التاريخ الكبرى، ومنها "تاريخ الأمم والملوك" للطبري و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي، تدلّ على أن شريعة "العقل المجتمعي" ترقى على الشريعة الإسلامية التي منعت الثأر. ومع أن من المفروض أن عبيد الله بن عمر من أدرى الناس بالشريعة الإسلامية، بيد أنه خضع لشريعة "العقل المجتمعي" العشائري المخالفة للشريعة.

"نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل"

"العقل الفاعل"، هو تلك الملَكَـة الذهنيَّة الطبـيـعيَّة التي تولَد مع الإنسان، ثمَّ تَضمرُ تدريجيًاً، بسبب تأثير العقل المجتمعي عليه أو عليها، ما يحوِّله تدريجيّاً إلى عقل منفعل.

ولكن هذه الملكة قد تظلّ كامنة لدى بعض الأشخاص، ثم تنمو وتتغذّى بالتفكير العميق، والمطالعة الجادة والرصد التلقائي أو المتعمد والهادف لمظاهر "العقل المجتمعي" الضارّة بالمجتمع نفسه، ما يؤدّي إلى تساؤلِها عن قيمة مبادئه الأخرى، وأعرافِه ومُسلّماته بوجه عام. ثم قد يشرع صاحب العقل الفاعل بالتحاور مع الجانب المنفعل من عقلة" و/أو يجادلُه، و/أو يحـلِـلـُه ويحاسبُه على ما يحملهُ من قِيَمٍ ومفاهيم ليست من مُبتكَراتِه، بل ممَّا يفرضَه عليه "العقلُ المُجتمَعيّ".

وهكذا فإن العقل الفاعل يمثل الجانب "الحُرّ" من عقل الإنسان، الجانب المُتحفِّز المُتسائل والمُشَكِّك والمُبدِع، والمُتطلِّع نحو اكتشاف آفاقٍ جديدة في كلِّ شيء، سواءٌ على صعيد الإنسان ذاته أم في ميادين ومجاهيل الحياة والطبيعة والكون، أم على صعيد مجتمعه عامة. هذا العقل الفاعل، هو الذي أنتج الحضارات البشرية الكبرى منذ أكثر من سبعة آلاف سنة حتى اليوم.

أما العقل المنفعل، فهو تلك الملَكة المُكتسبة التي يقتبسها الفردُ من مُحيطه، (أسرته، مدرسته، أقرانه، شارعه) ويستخدمُها في التفكير والتعامُـل مع الآخرين، واتِّخاذِ قراراته التي يُميِّز بها بين الصالحِ والطالح، والصحيحِ والخطأ، والخير والشرّ، في إطار مجتمعٍ مُعيَّن، وفي حدود زمنٍ معيَّن.

أو هو بالأحرى، مجموعةُ المبادئ والمعايير التي يفرضُها "العقلُ المُجتمَعيّ"(كما حددَّناه سابقًا)، على أعضاء المجتمع، والتي يتَّخذُها الفردُ العادي مِقياسًا لجميع أحكامِه وقراراتِه.

فنحن حين نُفكِّرُ أو نتعاملُ مع الآخرين، أو نتَّخذُ قراراتِنا، نضعُ ً في اعتبارنا غالبا، شعوريّاً أو لا شعوريًاً، المُستلزَماتِ والقـيّم التي يفرضُها "العقل المجتمعي"، (على "عقلنا المنفعل" به). والتي نخضعُ لها عادةً أو نحترمُها في الغالب، شئنا أم أبَينا. وهي مُتغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان، ورهناً بتطوّر المجتمع.

إذاً ثمة فرق كبير بين العقل المنفعل والعقل الفاعل؛ فالأول ذو أثر سلبي على الوحدة المجتمعية (المجتمع)، فهو يدفعه إلى التقليد وبالتالي إعادة إنتاج التخلف. في حين أن الثاني ذو أثر إيجابي، مُطـَوِر ومُحفِز، من شأنه إنتاج الحضارة، وإنمائها.

النظريَة الثالثة: عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة

إن انتقال العرب من مرحلة البداوة إلى مرحلة "التحضّر"، أيّ مجرد الاستقرار في بـيوت مشيّدة في مدن عامرة، بدل التجول في الصحارى. (والتحضّر غير الحضارة) هذا الانتقال السريع، بل المفاجئ، بعد الفتوح الإسلامية/ العربية الكبرى، لم يغيّر شيئاً من العقلية البدوية، (العقل المجتمعي)، الراسخة خلال آلاف السنين.

فعندما حقّق العرب المسلمون فتوحاتهم، ولاسيما في منطقة الهلال الخصيب، بما فيها العراق ومصر، رحل كثير من سكّان أواسط الجزيرة العربية الذين كان معظمهم من البدو الرُحَّل، الذين كانوا يعيشون غالباً على حافّة المجاعة، إلى تلك البلدان كفاتحين، حيث كان رَغَدُ العيش والثروة بانتظارهم.

يقول المؤرخ أحمد امين في كتابه "فجر الإسلام،": "لما فُـتح العراق وسمع العرب بغناه رغبوا في الرحلة إليه". ونقلاً عن الطبري، اضاف الاستاذ أمبن؛ "سأل الخليفة عُمر مبعوثَ أحدِ عُمّاله في العراق: كيف حال المسلمين؟" فقال: "انثالتْ عليهم الدنيا، فهم ينهلون الذهبَ والفضَّة".

من جهة أخرى، فالعرب كانوا يكرهون الزراعة، بل كانوا يكرهون كل مِهنة،( من فعل مَهَنَ، أي أستخدم فأذلّ)، لأن البدوي "النبيل" (حسب تقديرهم) هو الذي يكسب رزقه بشجاعته وإقدامه في الغزو والسلب.

حدثنا استاذنا علي الوردي بقصة طريفة حدثت في القرن العشرين، ملخصها أنّ أحد رؤساء القبائل العرب غضب على أحد رعاياه فشتمه قائلاً: "يا أبن الصانع". فانتشر خبر هذه الإهانة الفظيعة التي وصلت إلى زوجته، ما جعلها تعود إلى أهلها، وهي تطالبه بطلاقها، لأنها كانت تحسبه من أبناء العشائر، وليس من أبناء الصُنّـاع.

ويقول ابن خلدون عن العرب "إن رزقهم في ظلال رماحهم". ثم يخصّص فصلاً عنوانه : "إنّ الفلاحة من معاش المستضعفين".

وينسب ابن خلدون إلى الرسول (ص) أنه قال "ما دخلتْ هذه السكة دار قوم حتى دخلها الذُل"، يقصد المحراث. (ونحن نشك في صحّة هذا الحديث، لأن هناك أحاديث أخرى مناقضة).

وتأكيداً لأهمية المرور بمرحلة الزراعة وصولاً إلى مرحلة الحضارة، أشرح في كتابي "الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة"، في الفصل الثالث، بعنوان: "الثورةُ الزراعيَّة وأهمِّـيَّةُ العملِ المُنتِجِ في إِرساء دعائِم الحضارة البشريَّة".

وهنا أبـيـّن الفرق الكبير بين مرحلة البداوة، حيث ينتظر الإنسان فيها هِباتِ الطبيعة، في المقام الأول، ابتداءً من انتظار نزول الغَيَث، وظهور الكلأ، لإطعام أنعامه التي يقتات على منتجاتها، وبين مرحلة الزراعة، حيث يعتمد على نفسه في المقام الأول، في الحرث والبذْر والسقيِ (في حالة الزراعة المرْوِيّــة) والجنيِ، ثم الخزن للتقوّت من جملة المحصول، طوال أشهر السنة، والاحتفاظ ببعضه لإعادة استزراعه مجدداً.

ومن هنا نشأتِ ضرورة الاستقرار في الأرض المزروعة، فبناء المساكن وتكوين القرى فالمدن، فتقسيم العمل، فتبادل السلع والمنتجات، وظهور الصناعات (نشوء الحضارة). ومن هنا نشأت العلاقة الوطيدة بين الإنسان والأرض، وتطوّرت إلى الشعور بالانتماء إلى الوطن المُستقرّ، بدل الانتماء إلى العشيرة الراحِلة، ما أدّى إلى توطيد الحضارة وتطورها.

وبالإضافة إلى كل ما سبق، واستناداً إلى ما ورد في كتابي المذكور في الحاشية الأخيرة؛ يمكن أن نستنتج، إنّ العرب في هذه المرحلة من التاريخ، الذين كانت أكثريتهم الساحقة من البدو، لم يمرّوا بمرحلة الزراعة، التي من شأنها تغيير المفاهيم والقيم والأعراف البدوية، لذلك ظلّ العرب متمسّكين بها حتى يومنا هذا.

والظاهرة الجديرة بالاعتبار، هي أن سكان الخليج مرّوا بعد الطفرة النفطية، منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، بحالة مشابهة تقريباً لحالة العرب بعد الفتوح الإسلامية، قبل أربعة عشر قرناً. وقد شرَحتُ هذه الظاهرة، التي لم يتحدّث عنها أحد، حسب علمي حتى الآن، شرحتها في كتابي "الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة"، ولاسيما في الفصل الرابع تحت عنوان "نتائج الطفرة الخليجية: مقارنة بين حال العرب بعد الفتوح الإسلاميّة وحال عرب الخليج بعد الطفرة النفطية. (أشرت إلى هذا الكتاب سابقاً).

ملاحظات نقدية سريعة

1- أرى أنني عمّمت هذه النظريات، ولاسيما نظرية العقل المجتمعي، على جميع العرب، مع أن هناك فروقاً كبيرة أو صغيرة، بين عرب لبنان مثلاً وعرب ليبيا. أو بين عرب تونس وعرب العراق، مثلاً.

2- وردّي على ذلك، هو أن نظرية العقل المجتمعي، تسري على جميع المجتمعات، ولكن بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة.

3- فمع أن هناك، مثلاً، دائرة كبرى للعقل المجتمعي العربي تضمّ جميع البلدان العربية. بيد أنّ ثمة دوائر أصغر تدخل في محيط تلك الدائرة الكبرى، تمثل إحداها العقل المجتمعي الخليجي، وأخرى تمثل العقل المجتمعي للهلال الخصيب، وثالثة تمثل العقل المجتمعي لشعوب شمال أفريقيا. كما يمكن القول إنّ دائرة العقل المجتمعي الخليجي، يمكن أن تحتوي على دوائر متعدّدة تمثل السعودية فالكويت فالأمارات فالبحرين...إلخ. ويمكن تقسيم، العراق مثلا، إلى ثلاث دوائر (الجنوب والوسط والشمال)، لأن كل منطقة من هذه المناطق تتميّز بعقل مجتمعي يتسم بخصائص جزئيّة معينة، ولكنه مع ذلك، له دائرته الخاصة التي تدخل ضمن دائرة الهلال الخصيب التي تدخل، بدورها، ضمن محيط دائرة العقل المجتمعي العربي الكبرى.

وهكذا دواليك، يمكن إدخال دوائر أصغر فأصغر في كل دائرة لالتقاط الفروق بين المجتمعات الصغيرة، ضمن الدائرة الأكبر للمجتمع العربي الذي يتميّز بخصائص معينة مشتركة تسري على الجميع.

خاتمة: عَوْدٌ على بِدء

1- انطلقتُ في دراستي هذه من فرضيّة مفادها أن السبب الأوّل والأهمّ لجميع إشكالياتنا وكوارثنا، (وهو ما عبّر عنه السائل بـ"الانسداد العربي")، هو التخلُّف الحضاريّ، الناتج جذرياً، عن التأثير السلبي "للعقل المجتمعي" العربي الإسلامي الماضوي، على أعضاء "الوحدة المجتمعيّة"، الذين يخضعون له بعقلهم المنفعل به (أي بالعقل المجتمعي)، ما يُصَيّرهم دُمَىً يحركها بخيوطه كيفما تقتضي موجباته. وقد شرحنا هذه النقطة باختصار، بواسطة نظرية" العقل المجتمعي" و"نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل".. وبالتفصيل في كتابين.

2- أفترض أيضاً، أنه كلما ازدادت الفجوة الحضاريَّة، بيننا وبين "الآخر" عمقاً وسعةً، تفاقمت أوضاعنا، كما تضاعفت سلطته علينا، بشكلٍ مباشَر أو غير مباشَر. وتاريخنا الحديث، ولاسيما منذ أواسط القرن الماضي، يدلُّ على ذلك؛ علماً بأنني لم أقرأ أو أسمع عن أيّ باحث تعرّض لهذه الحقيقة وأثرها السلبي على ما ينتاب الوطن العربي من إشكاليات وويلات. هذه النقطة ترتبط ارتباطاً مباشراً وغير مباشر بالمحور الأول، موضوع البحث. ذلك لأن إغفال هذه الفجوة يقف مانعاً حاسماً في وجه تحقيق تقدم في سبيل بناء "إنسان عربي جديد". ومن البديهي أن يرتبط هذا المانع، على التوازي، أو بالأحرى بالتفاعل مع "المقاومة الفكرية"، هذه التي يجب أن تُعنى قبل كل شيء بردم هذه الفجوة؛ ولاسيما عن طريق إصلاح فلسفة التربية والتعليم. (انظر كتابي "إشكاليّة التربيّة والتعليم وإعادة إنتاج التخلف"(مرجع سابق).

3- أرجو أنْ نعترف بشجاعة، بأنَّ صراعنا مع إسرائيل هو صراعٌ حضاريٌ قائمٌ، في المقام الأوَّل، بين حضارتين إحداهما هابطة والأخرى صاعدة. وهذه نقطة أخرى لها علاقة جذرية وطيدة ببناء "الإنسان العربي الجديد" وبالتالي "المقاومة الفكرية".

نعم، هو صراع وجود، لكنَّ المحافظة على هذا الوجود يعتمدُ، في المَقام الأول، على الأقوى. والأقوى في العصر الحديث خصوصاً، هو الأكثر تقدّماً على الصُعد العلميّة والتقنيّة والتنظيميّة والاقتصاديَّة والصناعية، وبالتالي العسكريّة والمخابراتيّة.

في عصرها الذهبيّ، بقدر ما نحن ورثة الفترة المظلمة الأخيرة التي استمرّت قرابة ستة قرون.

5- بكل صراحة، أرى أنَّ الأمَّة العربيَّة آيلةٌ إلى الانقراض، إذا استمرَّت الأحوال على هذا المنوال، كما انقرضت قبلها أربع عشرة أمة/حضارة سابقة، كما يرى المؤرخ/ المفكر أرنولد توينبي في كتابه الموسوعيِّ "دراسة للتاريخ Study of History. الذي يصرّح فيه أن الحضارة الإسلامية، ومن ضمنها الحضارة العربية آيلة إلى الانقراض. ولئن نشير إلى ذلك، فإننا ننطلق من حِرصنا الشديد على مصير هذه الأمَّة العظيمة، بدقِّ ناقوس الخطر عالياً، لإنذار مفكّريها وقادتها. (انظر الفصل الأول من كتاب "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي... "، تحت عنوان" الخيار الحاسم: النهضة أو السقوط"، حيث أذكر سبعة عشر مؤشراً على سقوط العرب. كذلك أنظر ملاحق الكتاب الثاني "الأمة العربية بين الثورة والانقراض" التي تطرح مشاريع عمليَّة مهمَّة عدّة قد تسهم في تشييد "إنسان عربي جديد".

6- الانقراض الذي أتحدّث عنه، لا يعني ذوبان أو فناء 350 مليون عربي؛ بل يعني تهرؤ هذا الكيان العربي الذي يتميّز بوحدة اللغة والثقافة والتراث/ التاريخ والمشاعر والإشكاليات والطموحات. وكخطوة أساسيّة لتحقيق هذا الهدف الذي تقصده القوى المعادية للعرب، هو تفتيت البلدان العربية بتقسيمها إلى دويلات هزيلة متــناحرة. لأنها قائمة على أساس عرقي أو ديني أو عشائري أو مذهبي، أو أي شكل آخر من أشكال التقسيم الطائفي. هذه الكيانات ستكون بالنسبة إلى إسرائيل كبيادق الشطرنج التي تلعب بها كيفما تشاء. المهم أن تظلّ في حالة نزاع أو عداء دائم.

7- خلافاً للأفراد، فإن الأمم والحضارات تظلُّ على فراش الموت قروناً عدَّة، كما حدث لجميعً الحضارات البائدة، على الأرجح. وكذا قد يمكن القول إنّ الحضارة العربـــيّة الإسلامــيّة، قد هجعت على فراش الموت منذ العام 1258، تاريخ سقوط بغداد، ثم دخلت في غيبوبة الموت coma بعد سقوط غرناطة في العام 1492. ويبدو أنَّ جميع المحاولات التي بُذلت لإنقاذها، منذ أواسط القرن التاسع عشر، حتى هذه الساعة، باءَتْ بالفشل. بدليل ما يحصل اليوم من حروب أهلية وبينية كاسحة، ومن هجرات عربيّة مُذِلَّة بالملايين إلى البلدان الغربيّة وظهور "القاعدة" و"داعش" و"النصرة" وغيرها.

8- في كتابي المعنون: "في مواجهة التخلف..."، حاولت أن أطرح مشروعاً عمليّاً أعتبره جزءاً مهماً من "المقاومة الفكرية" التي طرحتها "مؤسسة الفكر العربي". وسأحاول أن أختصر هذا المشروع في أسطر عدّة، لأنني تجاوزت الحد ّ المطلوب من الكلمات في هذا المبحث.

9- هذا المشروع هو واحد من خمسة مشروعات عملية تحاول أن تدعم مشروعي النظري، بل تجسده وتحققه. وقد يشكّل هذا المشروع ركناً مهمّاً من أركان "المقاومة الفكرية" التي تؤدّي إلى بناء "إنسان عربي جديد".

10- وموجز هذا المشروع هو إنشاء "مؤسّسة موسوعيّة عربيّة في المهجر"، تتألف من أكبر عدد ممكن من العلماء وكبار المفكّرين المغتربين الحداثيين، وهم كٌــثرْ. بالإضافة إلى عدد من المفكرين العرب من داخل الوطن العربي. يجتمعون في إحدى العواصم التي تضمن لهم جواً مفعماً بالحرية والفكر البنّاء، الذي يبتغي إنقاذ هذه الأمة من هذه الغُمّة. فضلاً عن إخراج موسوعة إلكترونيّة موّثقة تسجل وتنشر جميع الحقائق العلمية والتاريخيّة ولاسيما التاريخ العربي الإسلامي، باللغة العربية، بموضوعية نقديّة. بعيداً عن الفكر المتعصّب: الإيديولوجي أو الدوغمائي.

11- الفرق المهم بين هذه الموسوعة وبين الموسوعات العربية المتاحة مثل "ويكيبيديا"، هي أنها بأقلام المختصّين الذين يستندون إلى مراجع علمية معتمدة.

12- بهذا المشروع، نحن نحاول أن نتحاشى عقبات عدّة ونحقق أهدافاً عدّة. فعلى الصعيد الأول، يمكن أن نتحاشى المؤثرات السلبيّة للعقل المجتمعي العربي الماضوي، فضلاً عن تدخّلات السلطات الحاكمة العربيّة، والسلطات الدينيّة، المباشرة وغير المباشرة. وعلى صعيد الأهداف، نحاول أن نستعيد أو نستفيد من كفاءات المثقفين العرب في المهجر، الذين ما يزال بعضهم وربما معظمهم، يشعر بانتمائه إلى هذه الأمة، فننظّمهم تحت سقف هذه المؤسّسة التي قد تنجح، فيما أخفق فيه المفكرون والمسؤولون العرب خلال القرنين الماضيين..

طبعا هذا غيض من فيض هذا المشروع الذي طرحته منذ ربع قرن وشرحته تفصيلاً في كتابي: "في مواجهة التخلف: من أجل هيكل معرفي عربي شامل.. نحو إنشاء مؤسّسة موسوعيّة عربيّة في المهجر". https://drive.google.com/file/d/0B7-yP9NKQgUrdFk4SEVzeVoxRU0/view?usp=sharing

13- وأخيراً وليس آخراً لا بد أن نشير بتقدير كبير إلى "المشروع النهضوي العربي"، الذي تعهده "مركز دراسات الوحدة العربية" منذ عام 1988. ويتضمن المشروع ستة مطالب دار حولها النضال العربي منذ أواسط القرن التاسع عشر، حسبما ذكر المشروع، وهي: الوحدة العربية في مواجهة التجزئة؛ والديمقراطية في مواجهة الاستبداد، والتنمية المستقلة في مواجهة التخلف، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الظلم، والاستقلال الوطني والقومي في مواجهة الهيمنة الأجنبية، والتجدد الحضاري في مواجهة التجمد التراثي من الداخل، والمسخ الثقافي من الخارج.