خواطر على هامش حوار مع أدونيس

تعليقا على حوار صقر أبو فخر مع أدونيس

بقلم الأعرجي

يتميز الحوار الذي أجراه صقر أبو فخر مع أدونيس، المنشور في صحيفة القدس العربي، في عشر حلقات (من 5 إلى 15 تموز/يوليو 2000) بسمات كثيرة هامة، ويعتبر إطلالة مكثفة وسريعة على وضع الثقافة العربية والفكر العربي والحركات السياسية وخاصة القومية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ولا سيما فيما يتعلق بهموم الحداثة وفشلها في الوطن العربي.

فإلى جانب التعرض للقضايا الأدبية، بما فيها الشعرية طبعاً، استعرض كل من السائل والمجيب أهم المعضلات الحضارية والفكرية المستوطنة على الساحة العربية، والناجمة عن تخلفنا عن ركب الحضارة الحديثة، بمختلف أوجهه ومظاهره الطافية والعميقة، وأثاره القريبة والبعيدة، بما فيها الحصارات أو ما سمي" بالأسوار" المضروبة على المدن العربية أو بالأحرى على العقل العربي. وأضيف إلى تلك الآثار الإحتلال الأجنبي المباشر وغير المباشر، والاستغلال الاقتصادي لمواردنا الطبيعية والبشرية وفرض شروط الصلح أو التسوية المجحفة بحق الجانب الضعيف (العربي الفلسطيني)، والغزو الثقافي وفرض العولمة.

ومع كل ذلك، وعلى الرغم من مهارة وقدرة أبي فخر في إدارة الحوار، وتعليقاته المفيدة، وحواشيه الدقيقة، إلا أنني قد أجيز لنفسي أن أقدم ملاحظة اعتبرها جديرة بالبحث والاستقصاء، ومطروحة للمناقشة والنظر أكثر مما هي معروضة باعتبارها تمثل حقيقة دامغة.

وتنصب هذه الملاحظة على قضية تتعلق بالعقل العربي الذي كان محورا للعديد من المسائل الواردة في الحوار، والتي توحي بأن العقل العربي هو السبب الأول في تخلف هذه الأمة، مما أسفر عن جميع الأزمات والنكبات التي حلت بها، خاصة في النصف الأخير من القرن الماضي. وفيما يلي نعرض هذه الملاحظة التي تتفرع إلى عدة نقاط:

- أولاً: قد يلاحظ القارئ منذ أن يطلع على المقدمة المسهبة التي يقدم من خلالها أبو فخر، أدونيس، أن أبا فخر معجب غاية الإعجاب بهذا "الشاعر الكبير" وليس لدينا اعتراض على ذلك، فمن حق الإنسان أن يُعجب بمن يشاء، ولكن هل له الحق في أن يفرض هذا الإعجاب البالغ على قرائه منذ الحلقة الأولى؟ إلى الحد الذي يقول فيه أن "أدونيس لايسعى نحو جائزة نوبل البتة... بل إن جائزة نوبل جديرة بأن تسعى إليه، فهذا الشاعر المتصوف المتمرد دائماً كأنه نيزك غريب ساقط من كوكب مجهول، إنه مسكون بألم حقيقي يعتصر مكامن الابداع في روحه الوثابة...إلخ".

ولا يكتفي أبو فخر بتقريض الشاعر في مقدمته المسهبة تلك بل يلغي جميع من انتقدوه دون استثناء ويتهمهم بأوصاف مهينة ومُذلة فيقول مثلاً " لم يكتف حُراس النواويس العربية القديمة بمهاجمة أدونيس، بل استُنفرت في وجهه جوقة من أنصاف المتعلمين الذين لم يثبتوا يوماً أي مقدرة في مضمار الثقافة والإبداع، بل أثبتوا دوماً مقدرة مشهودة على التمسح بأعتاب الحكام والتمرغ في غبائرهم...".

حتى يقول:" بل كانوا نعالاً لسلاطين هذه الأمة يأكلون بقدورهم ويضربون بسيوفهم".

ألا سيكون من الأنسب للسائل المحاور اللبق والواسع الاطلاع، أن يكون أكثر حيْدة وموضوعية، بحيث يترك للقارئ الحكم على كفاءات المجيب من خلال إجاباته التي كانت تتسم بقدرة عالية على تناول مختلف الأسئلة؟!

ألم يكن من الأنسب أن يترك للمجيب (أدونيس) الرد على منتقديه بكفاءته المتميزة؟

أنا لا أريد أن ادافع عن مهاجمي أدونيس، في هذا المقام، ولكني مع ذلك لا أريد أن أحرمهم من حقهم في التعبير عن ارائهم مهما كانت مخالفة لرأيي الخاص. إن اتهام جميع هؤلاء المنتقدين بهذه الأوصاف المُذلة يعتبر نمطاً من الإرهاب الفكري، لأنه يوحي للآخرين من المنتقدين، بأنهم سيوضعون في سلة تلك " النِعال" الحقيرة. وهذا أمرٌ خطير لاسيما ونحن نعيش في مجتمع قاسٍ، ما أن تُثار التهمة ضد شخص، حتى تتلوث سمعته ولو بدون دليل يذكر.

- ثانياً: ومن جهة أخرى فإن السائل المحترم سيكون أكثر مصداقية لو عرض لتقديم أودنيس للقارئ دون إصدار أحكام مسبقة على كفاءاته النادرة بل " الخارقة "، خاصة في الشعر الذي لا يفهمه إلا " الراسخون في العلم"، يقول أبو فخر:

" لا يمكن الولوج في المغامرة الشعرية لأدونيس والإيغال في المناخ المتلاطم لقصيدته وفي أفقها اللانهائي من غير إمتلاك معرفة لغوية وأدبية عميقة وثقافة راسخة في التاريخ والتراث والتصوف، وذائقة شعرية راقية، فضلاً عن الاتكاء على المعارف النظرية والفكرية المعاصرة....إلخ" (الحلقة الأولى).

وبذلك يلغي أبو فخر كل من لا يتذوق أدونيس بل يحكم عليه بالجهل وفقدان" الذائقة الشعرية الراقية ".

ولا بد أن أعترف، بكل خجل، بأنني واحد من هؤلاء الجهلاء، والذين لا يتمتعون بتلك " الذائقة الشعرية الراقية ". بل اعترف بانني لا اهتز إلا لشعراء لا يحتاج فهمهم إلى كل هذه المعارف" اللغوية والأدبية العميقة والثقافة الراسخة في التاريخ والتراث والتصوف"، شعراء من أمثال نزار قباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة في بعض قصائدها والجواهري في كثير من قصائده ومصطفى جمال الدين، ومحمد سعيد الحبوبي، وشوقي، في بعض شعره، وأحمد الصافي النجفي، في بعض شعره، وأبي القاسم الشابي، في كثير من شعره، وعلي محمود طه، بل حتى شعراء شباب من أمثال أمجد ناصر وفرانسوا باسيلي، وشعراء قدامى من أمثال المتنبي والمعري وامرئ القيس، وأبي تمام والبحتري وعمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس، وعلي بن الجهم، في قصيدته الفريدة المعروفة.... وغيرهم.

وتذكرني هذه الحالة بقصة "هانس أندرسون" المعروفة باسم "بدلة أو ثياب الملك " كما أذكر التي لا يراها إلا العقلاء، والتي قدمها بعض المحتالين إلى الملك كي يكتشف عقول بطانته فلم يجسر أحد على القول أنه لا يرى شيئاً، مع أن البدلة لم تكن موجودة أصلاً. وخرج الملك عارياً والجميع يهللون ويكبرون له لأنهم يعرفون قصة البدلة النادرة التي لا يراها إلا العقلاء، إلا أن طفلاً صغيراً قال لأمه:" لماذا يخرج الملك عارياً؟" فتنهره أمه قائلة: "لأنك لا تراها أيها الطفل الجاهل" أي البدلة العتيدة لأنه غير عاقل أو جاهل...

- ثالثاً: كما كنت أتمنى أن يكون السائل المحترم أكثر تحدياً لدى طرح أسئلته على المجيب، بحيث يتلمس نقاط الضعف والتناقض في آراء أدونيس، أو حتى عرض آراء المعترضين والمهاجمين لأفكار وأداء أدونيس " الشعري " أكثر من مجرد طرح أسئلة جيدة. بيد أنها تقطر إكباراً لشخصه ولفكره ولشعره، كما ظهر في مقدمته.

- رابعاً: أن تقديس أو تأليه الشاعر أو المفكر قد لا يختلف كثيراً عن تقديس الحاكم بأمره أو الزعيم، إلا من حيث أن تقديس الأول يمارسه المتعلم أو المثقف أحياناً ويقع فيه من حيث يدري أو لا يدري بمجرد إيمانه بذلك الشاعر أو المفكر، إلى حد يصبح شخصية غير قابلة للاعتراض أو النقد. وتقديس الثاني تقوم به العامة أو الرعية غير الواعية غالباً أو المغلوب على أمرها أحياناً.

ونحن هنا أمام ظاهرة جديرة بانعام الفكر لبيان ما تنطوي عليها من مفارقات وتناقضات:

1- فنحن إزاء مثقف متمكن من فكره وموضوعه (هو السائل أبو فخر) يتحدث عن إشكالية تخلف العرب فيقول مثلاً "كأننا نسير إلى الوراء" ويعي أبعادها ومظاهرها ونتائجها إلى حد بعيد. إلا أنه مع ذلك يقع في فخ "التقديس" الذي يرتبط بالتخلف، ويمنع عن "المقدس" (أدونيس) أي تعرض من جانب الآخر، بل أي نقد مهما كان. في حين أن النقد هو المحك الذي يرتبط بالفكر الحر والتقدم الحضاري والعلمي والمعرفي (الإيستمولوجي). ولم أجد في معالجات وحوار أبي فخر أي محاولة لنقد أدونيس أو تحديه. وهو بذلك لا يختلف عن معظم الذين يعقدون الندوات والحوارات في بلادنا العربية من خلال وسائط الإعلام المسموعة أو المرئية، والذين غالباً ما يتمرغون بامتداح الضيف وتعظيمه، خاصة إذا كان مسؤولاً حزبياً أو سياسياً، في النظم الشمولية المنتشرة في بلادنا. كما يحرصون على عدم إثارة أي سؤال قد يحرج الضيف، وغالباً ما تكون الأسئلة معدة سلفاً، ومطروحة لموافقة الضيف.

بينما يختلف الوضع تماماً في البلدان الديمقراطية المتقدمة، حيث يكون الضيف عرضة لأسئلة محرجة جداً حتى إذا كان رئيس حكومة أو دولة، وكلما زاد السائل في توجيه الأسئلة المتحدية كلما أعتبر الحوار أكثر أهمية ونضوجاً وتنويراً للسامع أو القارئ، في فهم الآراء المختلفة والمتناقضة، فضلاً عن نقاط الضعف والقوة في آراء الضيف وإجاباته وأسئلة المضيف وتحدياته.

2- ومن جهة أخرى فإننا أمام شاعر ومفكر بارز هو أدونيس، له صولات وجولات في النقد، بل في " زلزلة المسلمات" كما يظهر من كتابه " الثابت والمتحول " وحديثه الأخير مع أبي فخر. ومع ذلك فإنه يقبل ظاهرة أبي فخر "التقديسية" فلا يعترض على الإطراء المبالغ فيه في مقدمة الحوار، الذي لا شك في أنه قد أطلع عليه، فضلاً عن قبوله عملية إلغاء منتقديه، أو تبخيسهم إما بالإيديولوجية الضيقة أو باعتبارهم من "أنصاف المتعلمين المتمسحين بأعتاب الحكام"... ألا يعتبر ذلك نمطاً جديداً من احترام " المسلمات " التي ترتبط بالمقدس، وتكفير الذين يمسون ذلك المقدس؟

فأدونيس في هذه الحالة، يعتبر هو "المقدس" وآراؤه وأشعاره من "المسلمات" التي لا يأتيها الباطل من أي جهة كانت، بل قد يعتبر فقدها "كفراً" وهنا يقع أدونيس في نفس الفخ الذي يرى أن العرب والمسلمين قد سقطوا فيه، ألا وهو الإيمان بالمقدس واحترام المسلمات، مما أدى إلى تخلفهم بيد أننا إذا تحدثنا عن مبدأ نقد المسلمات فعلينا أن نطبق هذا المبدأ على مختلف المسلمات، وحتى المسلمات التي يؤمن بها صقر أبو فخر والتي تجعل من أدونيس بطلاً شعريا وفكرياً معصوماً، لا يجوز نقده، كما يتضح من مقدمته للحوار. ولا أدري كيف أن أدونيس، الذي يحارب التقديس وخاصة تقديس الأشخاص والمذاهب وبالتالي الإيمان بالمسلمات، بل يدعو إلى نقدها وزلزلتها، قد فاته أنه هو بالذات قد أصبح من المسلمات التي أراد أن يفرضها السائل اللبق أبو فخر على القارئ...! واستغرب أنه لم يعترض على ذلك.

ومن جهة ثانية فإننا قبل أن نلوم أو ننتقد الإسلاميين الذين يؤمنون بالمسلمات ولا يقبلون نقدها أو مسها، ينبغي أن نلتفت إلى المسلمات الحواثوية التي يكاد الليبراليون يعتبرونها من المسلمات التي لا تقبل الجدل. وأقصد بذلك أن علينا أن نبدأ بالنقد الذاتي قبل أن نشرع بنقد الآخر " تأمرون بالمعروف وتنسون أنفسكم "....!!

فنقد المسلمات، ينبغي أن يغطي، على ما أعتقد، جميع الأيديولوجيات والمذاهب الوافدة من الخارج، بما فيها الاشتراكية والشيوعية، وحتى الليبرالية والديمقراطية، ومبادئ حقوق الإنسان الغربية.... إلخ. بل ويشمل ميلنا الطبيعي كبشر إلى هذا البطل أو المفكر أو النابغة أو ذاك، مما قد يؤدي إلى نوع من التقديس فنقع مرة أخرى في فخ المسلمات.

وكل ذلك، أو بعضه، على الأقل، لا يعني أنني لا التقي مع المتحاورين المحترمين في العديد من المسائل المطروحة، بل كنت أشعر أحياناً أنهما يتحدثان بلساني، بيد أنني اختلف معهما في مسائل أخرى شرحت بعضها في مقالين سابقين (أو حلقتين نشرتا في هذه الصحيفة) ومع ذلك فإن نقدي لهما من النواحي المذكورة أعلاه، وإن لم يقلل من مكانتهما الخاصة في ذهني، بيد أنه ينصب على بعض المبادئ المطروحة أو المتبعة أو بالأحرى على طريقة التفكير ومنهجه. وكأننا أمام حالة تناقض. ففي الوقت الذي انصبت فكرة نقد المسلمات على " الآخر". - الإسلام والعرب كما هو واضح -، جرى تجاهل نقد المسلمات التي يؤمن بها المثقف العربي والليبرالي من جهة، كما جرى تجاهل المسلمات التي يؤمن بها المتحاورين بالذات من جهة أخرى. وحتى نقد فكرة نقد المسلمات بالذات، ان أمكن. أي أن فكرة " نقد المسلمات " ذاتها ينبغي أن لا تسلم من النقد. وإلا فإنها تصبح واحدة من " المسلمات " التي يؤمن بها المتحاورين دون نقاش أو تحفظ. مما يضعهما في صف الذين يؤمنون بالمسلمات، في الوقت الذي يدعون فيه إلى نقدها بل زلزلتها. وهنا وجه التناقض كما سأشرحه في الفقرة التالية.

- خامساً: أشرنا في مقدمة هذا المقال إلى أن الملاحظة الواردة على الحوار تتعلق بالعقل العربي، لذلك سنحاول أن نوضح في هذه الفقرة هذه العلاقة بل المفارقة التي تدعو غلى المزيد من البحث والتأمل، مع أننا سنكتفي في هذه الحلقة بما يلي:

1- هل يمكن أن نتساءل ونحن نواجه هذا الحوار / الكتاب، في ضوء ما ذكرته من ملاحظات سابقة، عن ميل العقل العربي إلى إدراك أو فهم النقيضين من أقصى طرفيهما، وحسب، أو في الغالب على الأقل: الأسود و/أو الأبيض، الحق و/أو الباطل، الجمال و/أو القبح، الخير و/أو الشر، الصح و/أو الخطأ، الجاهل و/أو العالم، العظيم و/أو الوضيع، المؤمن و/او الكافر (أو الزنديق)، الشاعر النابغة (النيزك) و/أو "حراس النواويس العربية القديمة " "ونعال السلاطين " !!.... إلخ.

والتساؤل ينصب في المقام الأول على: ألا توجد بين هذين الطرفين النقيضين ألوان وأصناف ودرجات من الحالات والأشخاص الذين يقتربون أو يبتعدون (في حالة الأشخاص) عن هذا النقيض/الطرف أو ذاك دون الإرتفاع إلى مستوى المثال الأعلى أو الانحدار إلى مستوى المثال الأدنى؟؟

ونحن قد نواجه هذه الحالة أو الظاهرة في كثير من سلوكياتنا وأحكامنا وفي الأحوال العادية لحياة عامة الناس، كما قد نواجهها في كتابات عدد من المفكرين والمثقفين من مختلف الاتجاهات الفكرية. فقد نواجهها مثلاً في كتابات الإسلاميين واتهاماتهم أو أحكامهم على بعض الأشخاص (نصر أبو زيد) وبعض كتابات الليبراليين مثل جورج طرابيشي في تعامله مع نصوص محمد عابد الجابري، ووصفه بأشد الصفات التبخيسية (الافتراء، الجهل، السرقة الأدبية والفكرية، تحريف الحقائق والأفكار...إلخ).

2- والمفارقة العظيمة التي نواجهها في هذا النص بالذات (أي الحوار) هو أن كلا المتحاورين يتميز بعقل ثاقب ن بل ونظرة ليبرالية عميقة لحال العرب وإشكالية العقل العربي، بيد اننا نجد مثلاً أن الكاتب المحترم أبو فخر يحكم بدون تحفظ بأن " جورج طرابيشي (قد أنزل) محمد عابد الجابري عن عليائه وحطم مرجعيته الفكرية وسلطانه الأدبي ".

أما كان الأجدر به أن يضع هذا الحكم المتطرف على الأقل، بصيغة سؤال يطرحه على أدونيس، أو أن يضعه بصيغة حيادية أكبر، ليكون أكثر مصداقية وبعداً عن الحكم المسبق!! (وقد حللنا ذلك بالتفصيل في الحلقة الثانية من الدراسة التي نشرناها عن هذا الحوار الخطير. ثم أن أدونيس نفسه يقع في فخ الأحكام المتطرفة لأنه اعتبر الجابري كاتباً لم يعمل على "زلزلة المسلمات " وبالتالي لم يساعد في تأسيس فكر عربي جديد من جهة، وأن جهد طرابيشي يعتبر جهداً ضائعاً. (وقد قمنا بالرد على هذين النقطتين بالتفصيل في حلقة سابقة). ووجه المفارقة الآخر هو إسراف أبو فخر بتقديس أدونيس وتبخيس منتقديه على أقصى حد، وبدون استثناء، كما شرحنا سابقاً. (فصلنا ظاهرة ميل العقل العربي إلى إدراك النقيضين في أقصى طرفيهما، في دراسة نشرت في "القدس العربي" في عدة حلقات، بدأت في 11/11/1996، تحت عنوان "نقد الحسّ النقدي عند العرب، مدخل لتحليل بعض جوانب تخلفنا الفكري").

3- قد يمكن الاستنتاج من كل ذلك أن المثقف العربي، أو حتى المفكر العربي، هو جزء من العقل العربي الذي يؤمن -بوجه عام – بالمقدسات (أو المسلمات كما يقول أدونيس) سواء مقدسات دينية او مقدسات بشرية أو حتى مقدسات فكرية صادرة سواء من "الآخر" الغرب، بل حتى من عقله هو بالذات. أي أنه في الوقت الذي قد ينتقد الآخرين لأنهم يؤمنون بمسلمات معينة، قد يقع هو بالذات في مزلق الإيمان بمسلماته الخاصة التي أخذها من الفكر الغربي مثلاً. أو حتى إذا كانت من مبتكراته الذاتية. لأن الإيمان بأي مسلمة من هذا القبيل دون إعادة النظر فيها بإستمرار ونقدها وإثارة الشكوك حولها، يؤدي إلى اتخاذ احكام مسبقة أو متطرفة أو زائفة، مما يسفر عن إجهاض الفكرة. يقول علي حرب: "المثقف يشتغل بـ " حراسة الأفكار". ومعنى الحراسة التعلق بالفكرة كما لو أنها أقنوم يقدس او وثن يعبد، على ما تعامل المثقفون مع مقولاتهم وشعاراتهم. مثل هذا التعامل هو مقتل الفكرة بالذات إذ هو الذي وقف حائلاً دون تجديد العدة الفكرية واللغة المفهومية، بقدر ما جعل المقولات تنقلب إلى أضدادها في ميادين الممارسة ومجالات العمل".

مقالة منشورة في القدس العربي