حول كتاب أزمة التطور الحضاري

قاسم دحمان

كاتب وباحث جزائري

· حول الكاتب والكتاب:

في مجموعة من المقالات المطولة والتي تربطها وحدة الموضوع والهدف، وهو تسليط الضوء على حال الأمة العربية الإسلامية وما تعانيه من تخلف وانحطاط على كل المستويات، سعى الأستاذ علاء الدين الأعرجي إلى جمع تلك الروافد لتصب في نهر عذب واحد تحت مسمى " أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل "، حاول من خلاله استنهاض الهمم وتوجيه الجهود الخيرة لأبناء هذا الوطن العربي الشاسع نحو هدف واحد وغاية واحدة هي محاولة تغيير الواقع المظلم الذي يعيشه الوطن العربي اليوم، وذلك بتسليط الضوء على أهم عيوبه ومعضلاته، ومواجهتها بدل الهروب منها وتأجيلها عجزا وكسلا.

وقد لاقى هذا الكتاب الكثير من الترحيب في الأوساط الفكرية وبين الباحثين بسبب تفرده بنوعية الطرح وصدق الجهد، وبالأفكار المبتكرة التي وردت فيه. والأكثر صدقا في هذا الكتاب هو تصالح الكاتب وانسجامه مع النفس، في عدم نسبة كل الصواب والحقيقة لشخصه ونفي الخطأ عنه، بل إنه حث الباحثين والمتخصصين وحتى القراء على إبداء الرأي – الجاد – في الكتاب وحتى المخالف لمحتواه، مقدما الغاية المنشودة منه والمتمثلة في مصلحة المجتمع العربي الإسلامي على ما دونها من أهداف ومكتسبات شخصية. فجاءت بذلك أفكار الكاتب خالية من كل انحياز أو تحزب أو إيديولوجية إلا من مصلحة هذا الوطن العربي الكبير، فكسب احترام كل قارئ مؤيد له فيما طرح من أفكار أو مخالف لها.

وقد تناول الكاتب في طبعته الخامسة من كتابه، " استشراف مصير الحضارة العربية الإسلامية بين العقل الفاعل والعقل المنفعل " هذا في قسمه الأول منه، وخصص القسم الثاني لدراسة حالة " العرب بين الإتباع والإبداع " حيث فصّل كل قسم منهما بمجموعة من الفصول، احتوى القسم الأول أربعة منها هي: الخيار الحاسم. النهضة أو السقوط، وأفرد الفصل الثاني لرأي ابن خلدون وأنولد توينبي في نشوء الحضارات وسقوطها ومصير الحضارة العربية الإسلامية ومناقشة الرأيين، وجعل الفصلين الثالث والرابع لمناقشة تحرير العقل العربي لتحرير الإنسان العربي، حيث حاول التمييز فيهما بين العقل والفكر، موضحا صدمة العقل العربي السجين في العقل المجتمعي، مشيرا إلى إمكانية إرساء نظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل.

أما القسم الثاني منه والذي تضمن ثلاثة فصول: فقد بدأها بفصل في ثنائية الإبداع والإتباع ومفهوم هذا الأخير المرتبط بغريزة المحافظة على البقاء، ثم سرد في الفصل الثاني آراء بعض المفكرين في مسألة الإبداع والإتباع عند العرب، وذكر منهم ابن خلدون والجابري نموذجا. وأما الفصل الثالث والأخير من هذا القسم – الثاني – فقد تناول فيه ثنائية الإبداع والإتباع مقابل العقل الفاعل والعقل المنفعل، والتي بين من خلالها كيف كان ومازال للبداوة العربية التأثير القوي على نشوء الحضارة عند العرب.

وأما القسم الثالث والأخير من الكتاب فقد خصصه للتعليقات والمناقشات التي تناولت الكتاب والمؤتمرات والصحف والمجلات، والرد على ما ورد في بعض منها من ملاحظات واعتراضات. بالإضافة إلى ملحق شرح فيه قصته مع الكتاب، زيادة على ذكر مشاريع اقترحها الأستاذ الأعرجي يراها تخدم أفكار هذا الكتاب لو أنه قدر لها أن تتجسد على أرض الواقع بصدق وإخلاص، وهذه المشاريع هي:

1 – مشروع إنشاء مؤسسة موسوعية في المهجر.

2 – مشروع إنشاء مركز ثقافي عربي أمريكي في نيويورك.

3 – مشروع إقامة جامعة شعبية عربية، تمثل الشعوب العربية إلى جانب جامعة الدول العربية التي تمثل الحكومات.

4 – مشروع مؤسسة التراث العربي الإسلامي.

· عرض الأفكار الواردة في الكتاب:

"التخلف ".. ربما يمكن اعتبار هذه الكلمة، المصطلح الجامع لوصف الحالة المتردية التي عليها الأمة العربية الإسلامية، والمصطلح الموجز الذي حاول الأستاذ علاء الدين الأعرجي بيان ما ينطوي عليه من مفهوم ودلالة، وما تضمنه من معاني الانحطاط والانكسار والمذلة.

ولئن كان هذا المصطلح هو نتيجة مؤسفة لماضٍ مجيد مزدهر، فهو اليوم بذاته ماضٍ مظلم كئيب، وسبب لحاضر مكبل بعشرات القيود والأغلال التي تحول دون نهضته، وتمعن في إطالة غفلته وعجزه.

في كتابه " أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل " في طبعته الخامسة المنقحة والمزيدة والتي صدرت عن مطبوعات دار – إي كتب – من لندن في 2015. شخص الأستاذ الكاتب مرض هذه الأمة بكل احترافية ودقة وصدق وإخلاص، ليضع يده على سبب العطب في هذا الجسد وليحدد مكمن الداء، ثم ليخرج بنتيجة ذلك الفحص المعمق الذي أوجزها في مصطلح " التخلف ".

وكان مصطلح " التخلف " هو الخيط الناظم الذي جمع فصول هذا الكتاب السبعة، التي بيّن من خلالها وبتراتبية متدرجة أصل الداء وأسبابه ونتائجه وصولا إلى اقتراح بعض الأدوية التي وإن لم تكن سببا للشفاء، كانت مقدمة لإيجاد الدواء الناجع له، كما يأمل الكاتب ويرجو.

وقد تناول الكاتب في فصله الأول " الخيار الحاسم. النهضة أو السقوط " وجوب الإقرار (بعدالة) نظرية " تنازع البقاء، والبقاء للأصلح " أو الأقوى أو الأذكى أو الأعلم أو الأعقل أو الأفطن أو الأدهى، بصرف النظر عن مفهوم العدالة بمعناها المطلق. كما ذكر.

وقد استحضر الكاتب رأي المؤرخ والمفكر " أرنولد توينبي " الذي حصر الحضارات التي ظهرت منذ مطلع التاريخ البشري المعروف في 21 حضارة، انقرضت منها 14 حضارة، ولم يبق منها إلا سبع، ست منها تمر بدور الانحلال، من بينها الحضارة العربية الإسلامية، وأما السابعة وهي الحضارة الغربية فإن مصيرها ما يزال مجهولا.

وانطلاقا من هذه النتيجة كان للكاتب أن ذكر ست عشرة مؤشرا عن تدهور الواقع العربي الإسلامي وركونه إلى الذل والتخلف، كما عمد إلى تقسيم مظاهر انقراض هذه الأمة إلى مادية ومعنوية واقتصادية وتكميلية، مبينا أنها قد تتداخل فيما بينها في الغالب.

كما لم يغفل الكاتب المرور برأي المفكر والمؤرخ الإسلامي ابن خلدون الذي كان له سبق التطرق إلى بداوة العرب، التي ما برحت تنخر جسد الأمة العربية الإسلامية إلى اليوم. ويرى الكاتب أن سبب هذه البداوة المتوارثة عبر الأجيال يعود إلى " عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة "، وهي مرحلة يعتبرها الكاتب مفصلية في الانتقال من البداوة إلى التحضر والتي كان وجوب مرور العرب بها ذا أهمية بالغة قبل إنشاء الحضارة العربية الإسلامية. وهذه الفكرة هي واحدة من نظريات ثلاث وضعها الأستاذ الأعرجي لرصد أسباب التخلف والجمود.

وأما النظرية الثانية فهي نظرية " العقل المجتمعي " الذي هو مكمن الداء وبؤرة " إنتاج فيروس " الركود والذل والهوان الضارب في مفاصل الأمة العربية الإسلامية، فما يفرضه هذا العقل المجتمعي من أغلال وقيود على فكر الإنسان العربي يجعله متقوقعا داخل دائرة ضيقة، وتحت رقابة صارمة من مجموعة من السلطات الوهمية الزائفة التي لا أصل لها من دين أو منطق، حددها بسلطة الحاكم بأمره، وسلطة السلف التي نعتها بسلطة الأموات على الأحياء، وسلطة الماضي القريب المظلم. وبالتأكيد أن عقلا مكبلا بكل هذه القيود لا يمكنه أن يكون أكثر من آلة تخضع لمن يديرها ويستخدمها.

وبهذا الوصف فالإنسان العربي المعاصر – في رأي الكاتب – هو سليل الفترة الاستعمارية المظلمة، وليس سليل الحضارة العربية الإسلامية، وهي نقطة أغفلها الكثير من الباحثين ولم يعطوها الأهمية اللازمة كما يرى الكاتب، ونتيجة ذلك أن هذه الفترة خلقت لنا إنسانا عربيا يمتهن الإتباع ويتقنه، ولا يجد للإبداع سبيلا ولا مقدرة، وهذا ما حاول الأستاذ الأعرجي إيجاد الدواء الناجع له من خلال بحثه في الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان " ثنائية الإبداع والإتباع "، التي لا يمكن فصلها عن نظرية " العقل المجتمعي "، أو الصراع بين طرفي نظرية " العقل الفاعل والعقل المنفعل " – وهي النظرية الثالثة -. هذا الصراع الذي سيكون لنتائجه الدور الحاسم في تحديد إمكانية الحركة، أو الجمود لهذه الأمة في ما تبقى من مستقبلها المبهم.

ومع أن الكاتب تكلم بوضوح عن دور "الآخر" فيما آلت إليه حال المنطقة العربية والإسلامية من تخلف ومازالت تعانيه بسبب استحواذه على مفاتيح الاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا والسياسة للأمة، إلا أن مسؤولية ذلك أرجعها في المجمل الأعم إلى "التخلف" الذي تعانيه الأمة العربية الإسلامية وليس بسبب العامل الخارجي "الآخر". كما سماه.

ولأن للمرأة في الواقع العربي الإسلامي نسبة كبيرة، حيث تشغل حيزا غير قليل من ذهن " العقل المجتمعي " فإن في تحريرها من النظرة والمعاملة النمطية التي يعاملها بها الذكر العربي، تحرير للعقل والتفكير الذكوري للرجل العربي ومن ورائه المجتمع العربي الإسلامي كما يرى الكاتب.

لقد كان هم الكاتب كبيرا أمام مأساة مجتمعه الضاربة بجذورها في كل الأنحاء وعلى مرّ سنين طويلة، وقد أقرّ بصعوبة العمل وكثافة الجهد، بسبب شساعة الهوة الفاصلة بين المواطن العربي وأسباب الحضارة، لكنه عمد إلى وضع حجر للأساس الصحيح عسى أن يأتي من بعده من يبني عليه أعمدة وأسس الحضارة العربية الإسلامية المنشودة، وهو يرى أن ذلك لا يتم إلا بالتشخيص الصحيح والمصارحة القاسية الفاضحة لأصل العلة المبينة لأسبابها وآثارها، ولذلك كانت كلماته في بحثه المطول هذا كلمات صلبة بعيدة عن المجاملة والمحاباة والطبطبة على الخيبة والخمول حتى لا تزيد صاحبها ارتياحا لعجزة وسكينة لغفلته، ولكنها كلمات تعبر عن الحرص الشديد من كاتب منشغل كل الانشغال بهم وطنه الكبير أكثر مما تعبر عن مجرد مثقف منشغل ببيان مواطن الضعف والخلل لعدها لا للبحث لها عن علاج. لذلك فقد أفاض في رصد كل مؤشرات التخلف المفضية إلى الانقراض والانحلال المهددة لمصير هذه الأمة، في حال تم إهمالها وعدم تدارك خطرها البالغ والتغافل عن خطورة تفاعلها بمرور الوقت.

· مناقشة محتوى الكتاب

على الرغم من أن كل تلك المؤشرات هي حقيقة ماثلة بين أيدينا اليوم، لا يمكن لأي كان إنكارها أو التقليل من شأنها في بيان حال الأمة وما آلت إليه من تدهور وانحطاط أوصلها إلى الحضيض. إلا أن كلمة " انقراض " تبقى - في رأيي المتواضع جدا – قاسية في الحكم على حالة الأمة العربية الإسلامية، بل هي كلمة تكاد تكون منهية لجدوى البحث والتمحيص عن أسباب الداء وكيفية البحث عن الدواء، مادام المريض في رمقه الأخير الذي يكاد يقطع الأمل من شفائه.

ولو اعتبرنا جدلا أن الإنسان العربي هو سليل فترة الانحطاط المظلمة فقط – كما ذكر الكاتب – وقطعنا اتصال جذوره بفترة الازدهار الحضاري التي كان عليها، فإن الأمل في معاودة الإنبات عنده سيكون ميؤوس منه، وكل جهدنا في محاولة استنهاضه هو والعدم سواء.

ولكننا حين نأمل من الإنسان العربي ونحثه على التطلع إلى هرم الحضارة مرة أخرى، ونطالبه بمحاولة السعي نحو الوصول إليه فإنه لابد من تقليم تلك الأغصان الزائدة المتطفلة والمستهلكة لعوامل الحياة والنمو، لتتمكن الجذور الأصيلة من إنبات أغصان أصيلة مثلها ونموها بشكل صحيح وسليم.

بمعنى أنه لا بد من تغذية الإنسان العربي من الجذور الطيبة العريقة لحضارته الشامخة، لا الفروع العقيمة المسمومة لفترته الاستعمارية المظلمة حتى ينبت جسما صحيحا سليما قويا. بل إنه يتحتم علينا أن لا نعتبر الإنسان العربي جثة مدبرة عن الحياة نحاول إنعاشها، ولكن علينا اعتباره جنديا مقبلا على معركة مصيرية يحتاج منا إلى رفع روحه المعنوية وإذكاء فتيلها، وإلا فإن الروح الانهزامية سوف تعجل بنهايته في أول معركة من حربه الطويلة المضنية.

إن مقارنة المجتمعات العربية الإسلامية المتخلفة حضاريا – كما جاء في أحد فصول الكتاب – بالمجتمعات الغربية المتقدمة والتي تتقبل الرأي الآخر، يتجاوز المرحلة التاريخية المظلمة نفسها التي مرت بها تلك المجتمعات الغربية قبل الوصول إلى مرحلة التعايش، وهي مرحلة تناحرت فيها الأمم الأوربية لأزيد من 130 عاما من الحروب الدينية التي توجت بمعاهدة واستفاليا سنة 1648، لتُستأنف مرة أخرى في منتصف القرن التاسع عشر بحربين عالميتين أتيتا على الأخضر واليابس في أوربا وأبانتا هشاشة ذلك التعايش، بل وكان من نتائجهما السلبية الدائمة أن نقلت - تلكا الحربين - مركز الثقل الاقتصادي والتكنولوجي إلى أقصى الغرب حيث هو باق إلى اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك لا يمكن إغفال أن المصلحة الأوربية اليوم هي حجر الأساس في البناء الأوربي المشترك، لكن هذا الدرس استغرق من الأوربيين ما يربو عن الخمسة قرون – من سقوط القسطنطينية سنة 1453 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 – حتى يتخلصوا من كل بذور التخلف والتناحر الموجودة في الجسد الأوربي. وصحيح أن نهضتهم العلمية والثقافية والفكرية كانت سابقة للنهضة الصناعية التنافسية، إلا أنها لم تغن عنهم من الإضرار بأنفسهم قبل أعدائهم. ولا يختلف الحكم " بالتخلف " على من يقتل نفسه أو أخاه بسلاح اشتراه من عدوه كما يفعل العربي اليوم أو صنعه بنفسه كما فعل الغربي بالأمس.

ربما تستغرق الحضارات العريقة العظيمة مدة طويلة من الزمن للسقوط والاندثار، وكذلك من أجل النهوض والانتشار، والأمة العربية الإسلامية لم تكن حضارة مزيفة ولا طفرة في التاريخ جاءت نتيجة خطإ ما. لقد كانت حضارة بنيت على أسس قوية صحيحة ودعائم متينة وركائز ثابتة جعلتها تصمد أمام الكثير من المحن والهزات العنيفة في تاريخها والتي تعرضت لها من داخلها وخارجها، بالرغم من ذلك تمكنت من الصمود لأكثر من ألف سنة.

ومن أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها يصف لنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – طبيعة أهله وقومه العرب فيقول: " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله "، ويفسر لنا هذا القول ويؤكد معناه ابن خلدون – الذي كان واحد ما علمين عظيمين ذكرهما الأستاذ الأعرجي في كتابه هذا – في قوله: " إن العرب لا يصلحون إلا بدين، ولا يقوم لهم ملك إلا على نبوة، وأن العالم لا يعترف لهم بميزة إلا إذا كانوا حملة وحي، فإذا انقطعت بالسماء صلتهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وغشيهم الذل من كل مكان " (كما جاء في مقال للشيخ محمد الغزالي رحمه الله).

فالعقل العربي لم يخلق للإبداع والعمل الجمعي إلا في إطار الحضارة الإسلامية، والعرب بلا وحي يتردّون إلى العقل القبلي الهمجي المحدود. وهو بهذا نقيض للعقل الغربي الذي يبدع كلما تحرر من القيود الدينية، وربما يكون من الصواب القول: أن طبيعة الدين والشريعة الإسلامية التي ما كانت يوما عائقا أمام حرية الفكر، بل كانت مشجعة له وداعية إليه، هي التي جعلت من الدين الذي اعتبر قيدا أمام العقل الغربي في القرون الوسطى، قوة دفع للإنسان والعقل العربي للإبداع والتميز لقرون طويلة، وهي القوة ذاتها التي يفتقدها اليوم لتخرجه من حالة الإتباع إلى حالة الإبداع.

بل إني أزعم أن سبب تأخر النهوض بالعقل العربي هو محاولة الإسقاط والاستنساخ الفاشلة لتجربة العقل الغربي في التحرر من قيد العامل الديني، وعدم الإقرار بهذا الاختلاف الجذري بل التنافر والتناقض التام بين " قوى الدفع " التي تمكن كلا من العقل العربي والعقل الغربي من النهوض والتحول من حالة الجمود إلى حالة الحركة والنشاط.

وهنا نكون قد وصلنا إلى واحدة من أهم ركائز هذا الكتاب المنفرد في طرحة ورؤيته، وهذه المحطة هي نظريات ثلاث أرسى قواعدها الأستاذ الأعرجي لتكون دعامة مهمة لأفكاره، وهي نظرية العقل المجتمعي، ونظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل، وكذا نظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة، كمرحلة تمهيدية ضرورية قبل إنشاء الحضارة الإسلامية.

وبالرغم من واقعية الطرح والتبرير لهذه النظريات ومنطقية أسسها التي بنيت عليها، إلا أن التقيد بالماضي القريب المظلم الحالك لجلد الحاضر الغافل، يمكن اعتباره حيزا ضيقا جدا للتشخيص ومرجعا وحيدا للاستدلال لم يكن من مبرر للاقتصار عليه وإن كان له العذر في شطر كبير منه باعتبار أنها المرحلة المراد تشخيصها والتي ظهر فيها المرض، والواقع العربي حقيقة يبعث على اليأس والإحباط، لكن إذا يئس المريض من دائه، فليس للطبيب أن ييأس من البحث له عن الدواء، ولا احد ينكر أن بعض الأمراض لا يمكن تشخيصها بصورة تامة إلى بالرجوع لما قبل ظهور المرض للنظر في جذوره أو الاطمئنان إلى عدم وجود جذور له.

وأحب أن أشير هنا إلى أن خيطا رفيعا من التداخل والالتباس – قد شغل ذهني – وسبب لي مشكلة في تحديد " العقل الفاعل ". فإذا كان "العقل المنفعل" في رأي الكاتب هو "العقل المجتمعي"، وتعتبر الفئات المتميزة منه في التفكير الحر المتمرد على قيوده هي "العقل الفاعل "، فإن العقل الفاعل في ذاته قد يشكل " عقلا مجتمعيا " له ضوابطه وخطوطه الحمراء، فهو بهذا يحتاج إلى ثورة وإلى عقول فاعلة تتجاوز تلك الخطوط الحمراء كالتي وضعتها النخبة المثقفة الفاعلة في عالمنا العربي والإسلامي اليوم.

وفي رأيي أن الأستاذ الأعرجي – بهذا الكتاب – قد يكون واحدا من القلة التي تجاوزت تلك الخطوط الحمراء ليس للعقل المجتمعي العام فحسب، بل وكذلك للعقل المجتمعي النخبوي، ونحن من أجل نهوض هذه الأمة نحتاج إلى مجموعة كبيرة وفاعلة من أمثال الأستاذ الأعرجي، لأن التوعية وتنقية الأفكار يجب أن تعمل على تمحيص النخبة الفاعلة " العقل الفاعل " قبل مبادرة العمل مع "العقل المجتمعي المنفعل"، فإنه لا يمكنك إجراء عملية جراحية ناجحة لجسد مريض بأدوات غير معقمة قد تكون أشد خطرا عليه من دائه الذي يعانيه، وهذا واقع حال معظم قادة نخبتنا اليوم بمباركة "الآخر". والحقيقة أنه لا يمكن إغفال جهد هذا " الآخر " في إرساء دعائم هذا التخلف وتغذيته والمحافظة عل ديمومته، وهذا لا يعني تبرئة "الأنا"، بل يعني أن هذين الطرفين – الأنا والآخر – يعملان بشكل متواز مع بعضهما في ذلك.

ولو نظرنا إلى بعض الدول الإفريقية والآسيوية التي استطاعت قطع أسباب التخلف وأواصر الارتباط "بالآخر" لوجدناها قد تجاوزت مرحلة الجمود التي كانت عليها، والتي كانت أكثر سوادا مما تعانيه الأمة العربية الإسلامية اليوم، وهي في بداية مرحلة النهضة والحركة، وربما هي لن تبلغ مرحلة إنشاء حضارة بسبب عدم وجود بذور ذلك في ماضيها، ولكنها قد تنشئ الدولة القوية القادرة على العيش تحت ظل حضارة ما.

إن قيام الحضارة الغربية الحديثة كان بوتيرة متناسبة مع سقوط الحضارة الإسلامية، فالحضارة الغربية الحديثة كانت وهي في حالة ضعفها أو بداية قوتها تستعين بالذراع الداخلية الهادمة للحضارة العربية الإسلامية، فكانت بذلك تعمل على جبهتين تصوبان إلى نفس الهدف. وهاتان الجبهتان هما تقوية الذات وإضعاف الخصم، وهو ما يعيق إمكانية النهوض العربي اليوم، أي العمل نفسه الذي يقوم به الآخر على الجبهتين ذاتهما اللتين تعملان على الحرص على عدم إمكانية النهوض وتأجيله ما أمكن، وذلك بفضل أدواته التي أحسن استعمالها واستغلالها وتدريبها من " العقل الفاعل " النخبوي الذي يعمل بجهد كبير على الإبقاء على العقل المنفعل مكبلا بكل القيود الممكنة بدل استنهاضه.

إن نظرة خاطفة على التجربة التركية الحديثة يمكنها أن تلقي الكثير من الضوء على الجرعات النافعة لجسد هذه الأمة العربية الإسلامية، فقد أدى إذكاء الروح القومية والدينية في المواطن التركي إلى إخراجه في مدة وجيزة من الترتيب في آخر قائمة التخلف إلى الصدارة على قوائم التقدم والانبعاث من جديد، وبصرف النظر عن التوجه الفكري والإيديولوجي أو المذهبية الدينية في تركيا فإنه لا يمكن إنكار النقلة النوعية الملفتة التي أحدثتها " قوة الدفع " المعنوي تلك في الإنسان التركي، وما تولد عن ذلك من نتائج مبهرة مست كل مناحي الحياة في تركيا.

إن تركيا لم تكن تختلف في حالها من التخلف والجمود وسيطرة " العقل المجتمعي " وصراع " العقل الفاعل والعقل المنفعل " في شيء عن أي قطر عربي إسلامي منكوب، مما يجعل منها نموذجا جيدا للاعتبار والإقتداء والمحاكاة، ولو باعتماد التعديل الإيجابي في التوجه الفكري والمذهبي بما يناسب كل الأقطار العربية الأخرى. وهذا سيكون مشابها لما فعلته أوربا مع ظهور الثورة الصناعية والفكرية فيها والتي جعلتها تتنافس في الارتقاء بكل مناحي الحياة المادية، مع تمسك كل قطر بتوجهه الديني – أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت -، والأمر بالنسبة للأقطار العربية الإسلامية سيكون أيسر وأبسط إذا توفر " العقل الفاعل " المتزن والمخلص والحريص على تقديم وإظهار نقاط الاتفاق والتفاهم الكثيرة والتركيز عليها، وتجاوز نقاط التنافر والاختلاف وإغفالها.

قاسم دحمان

الجزائر في: 13/08/2020