ذكرياتي مع الغيطاني

ذكرياتي مع الغيطاني تخترق الفجوة بين اللغة والفكر

نشرت في "القدس العربي" بتاريخ

10/03/2009

حديث الأديب جمال الغيطاني التلقائي، في إحدى القاعات الكبرى في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، في محاضرة حرصنا، مع د. سعدون السويح رئيس 'النادي العربي، على تنظيمها له، قبل إعلان فوزه بجائزة الشيخ زايد، تحت عنوان 'تجربتي الروائية في نصف قرن'، (13/ 1/2009)؛ ذلك الحديث، أشعل في قلبي الكثير من الشجون وأثار في عقلي العديد من الشؤون، ومزيدا من الفهم والتقدير لهذه الشخصية، التي أظن أنني أصبحت أعرفها عن كثب، نتيجة علاقة صداقية وفكرية حميمة على قِصَرها. بدأت، منذ قرابة العامين فقط، بجلسة فكرية أتاحها لنا الصديق الكريم د. نائل الشافعي، صاحب موسوعة المعرفة، في دارته التي تحرص عادة على ضمّ ثلة من المبتلين بهاجس الأدب البديع والمهووسين بآفة الفكر الرفيع، أملا ً في إنقاذ هذه الأمة من هذه الغـُمة.

تلك الأمسية التاريخية حضرها المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري، صاحب الموسوعة الكبرى 'اليهود واليهودية والصهيونية'(8 مجلدات)، والكاتب الأديب محمد الخولي والشاعر الفنان أحمد مُرسي والناقد الأدبي فتحي أبو رفيعة، وغيرهم. في هذا الجو المفعم بنسيم الفكر العَبِـِق، تعرفت على جمال الغيطاني شخصيا. سمعت عنه الكثير ولم أقرأه.

أعترف بأنني لم أعد أهتم بأدب الرواية، الذي قرأت أن الغيطاني يمارسه بكفاءة عالية، إذ فارقني أدبها منذ زمن بعيد، عندما كنت في سن المراهقة ألتهم روايات روكامبول المترجمة لميشيل زيفاكو وأرسين لوبين لموريس لبلان، وربما تطورتُ فأخذت أقرأ الرافعي والمنفلوطي ثم شيئا من جبران وصولا إلى طه حسين والحكيم ورفقائهما.

صحيح أن وراء بعض الروايات الهامة فكرة عميقة، إلا أنني أصبحت لا أصبر طويلا على انتظار الخاطرة الذكية، بل صرت مستعجلا ومتعطشا ً لرشف الفكرة الناضجة من معينها عارية تماما، أو مجردة من أي 'ميكياج' يُجَـمل وجهها أو ثوب يحسّن مظهرها.

في أعقاب ذلك اللقاء، وما تلاه من لقاءات ثقافية ثرَّة، تمت سواء في الصالون الأدبي للكاتب والشاعر فرانسوا باسيلي أو في مسكني؛ أقول بعد تلك اللقاءات التي كانت حافلة بالنقاش الجاد والحاد أحيانا، ربما شعرت أن الوقت قد حان لإعادة النظر في بعض آرائي حول أدب الرواية، أو بالأحرى في أديب الرواية.

وهكذا حرصت على اللقاء بالغيطاني على انفراد، لأنني شعرت من خلال مناقشاتنا الحامية في تلك الجلسات أن وراء هذا العملاق الأدبي جبلأ من الفكر العروبي، ربما لا يراه إلا فريق من المثقفين الذين يتعمقون في معرفة الغيطاني. وتذكرت قصيدة ذات معنى عميق ودقيق، لشاعر فرنسي عنوانها 'الأصدقاء غير المتعارفين'Les Amis Inconnus، مغزاها: إن لكل إنسان أصدقاء لم يلتق بهم أصلا، منتشرين في مختلف أرجاء العالم. ولكن قد يحدث أن يتعرف على أحدهم صدفة، فيستغرب مدى الانسجام والتفاهم، الذي يسود بينهما بهذه السرعة. ويصبحان أصدقاء وكأنهما يعرفان بعضهما بعضا منذ عشرات السنين. هذا ما شعرت به، وأنا اتجول وأتحدث مع صديقي الغيطاني في متاحف ومكتبات نيويورك العامرة والكثيرة.

ما يتميز به هذا الأديب هو سعة الأفق العقلي، والتواضع الفكري والشخصي، وهو ما أبحث عنه كثيرا، ولا أجده إلا قليلا.

في أحد تلك اللقاءات الأولى، أهديت إليه كتابي'أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل'. تصفحه باهتمام شديد خلال دقائق، ورنا إليّ قائلا: 'خطير! سأقرأه اليوم قبل النوم'. ابتسمت متصورا أنه يمزح أو يجامل متلطفا. عندما قابلته في اليوم التالي استغربت لأنه اطلع عليه فعلا بل تفهمه، حين أمطرني بأسئلة دقيقة. لهذا رجوته أن يكتب تصدير الطبعة الثالثة التي ستصدر قريبا من دار 'أخبار اليوم' القاهرية.

نعود إلى أعماله الكثيرة التي تجاوزت الأربعين كتابا. أهداني عددا منها، ولئن اعترف بقدرتي النسبية على الاستيعاب مقارنة به، أجلتُ مطالعة بعضها، وقرأت البعض الآخر.

تمتعت مثلا بـ'ملامح القاهرة في ألف عام'، واحتفلت بها؛ تاريخا وتوثيقا ووصفا وتحليلا، وانبهرت بـعمق بـ'الزيني بركات'، الذي ما زلت بحاجة إلى مزيد من الإنعام والتعمق فيه، أما ' رسالة الصبابة والوجد'، فقد سحرتني لغتها السلسة والعيمقة، التي تناجي القلوب والعقول معا.

هل ردم الغيطاني الفجوة العميقة بين الفكر واللغة؟

من خلال هذه الرسالة الأدبية البارعة، قررت إعادة النظر في رأيي المتعلق بالعلاقة بين اللغة والفكر. فأنا أتمسك، إلى حد كبير، بنظريتي القائلة بوجود فجوة بين الفكر واللغة. لأن اللغة هي الأداة الاجتماعية التي نستخدمها عادة للتعبير عن الفكر. أما الفكر فنابع من جوهر الطبيعة البشرية العاقلة ذاتها، (Homo Sapient) فهو غير محدود، على عكس محدودية اللغة التي تمثل مصطلحات لفظية نشأت وتطورت تبعا للتطورات التي تعرض لها المجتمع، أو 'الوحدة المجتمعية'. فاللغة مُنتج اجتماعي محض، مقابل الفكر كمُنتج طبيعي محض، لا سيما في أصوله وجذوره، واللغة مُنتج موضوعي، مقابل الفكر كمُنتج ذاتي. نعم، هناك تفاعل جدلي معقد ودائم بينهما، لكن هذا التفاعل المعقد بالذات يكشف عن الفجوة القائمة بين الفكر واللغة بكل جلاء.

هنا استدرك فأقول إنني أفرِّق، في هذا المقام، بين الفكر والعقل، فالعقل منتج اجتماعي بينما الفكر منتج ذاتي. والحديث يطول حول هذا الموضوع الذي يتجاوز هذا المقام، فقد شرحته في كتابي"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي".

إنني أرى وجود فجوة كبيرة بين اللغة والفكر بوجه عام، تتجلى مثلا فيما يعاني منه الكاتب/المفكر أو المتكلم، من فارق بين الأفكار العميقة التي تدور في ذهنه والأداة التعبيرية اللغوية المحدودة أو الضيقة، التي تخضع للعقل المجتمعي، أي ما تعارف عليه المجتمع من تركيبات لغوية اعتبارية، كما أسلفنا، والتي يضطر الكاتب/ المفكر لاستخدامها في سبيل التعبير عن تلك الأفكار، التي غالبا ما يشعر أنها تتجاوز تلك الأداة اللغوية، مهما كانت متطورة، ومهما كان متمكنا منها، لا سيما إذا كان واسع الفكر متشعب الإدراك المتعدد الأبعاد والأطياف، كما في حالة أديبنا الكبير جمال الغيطاني، مع مراعاة اختلاف قدرات الكـُتـَّاب والمفكرين في الأداء اللغوي والتعبيري. وقد تشكل هذه النقطة مؤشراً على تخلف اللغة عن الفكر.

أما في هذا النص، الذي نشره الغيطاني تحت عنوان 'رسالة في الصبابة والوجد'، فأرى أن اللغة لم تـَعُـدْ، في بعض العبارات والتركيبات الوصفية التحليلية، مجرد رمز للمفهوم القابع في ذهن الكاتب، ذلك الرمز اللغوي، او اللفظي، الذي قلنا إنه قد لا يعبر بدقة عن فكر الكاتب؛ بل تحولت إلى 'مفهوم' مجرد بذاته، مستقل عن فكر الكاتب، بمعنى أن الكلمة/ العبارة توحي بمفهوم معين، ليس بالضرورة المفهوم الكامن في ذهن الكاتب. وهكذا أرى أن الغيطاني حاول، عن طريق الإبداع في استخدام "جدلية الخفاء والتجلي"، بالاستعارة من كمال أبو ديب، أن يتجاوز الفجوة التي تحدثنا عنها بين اللغة والفكر، فنجح في تجاوزها ربما من دون قصد.

بعض هذا النص التعبيري المُشِع بـ'دلائل الإعجاز'( بالاستعارة من الجُرجاني)، قد يرتبط بحالات واقعية معينة، ولكنه يخترق ذلك الواقع برقـّة، أوبعنف ودقـّة، ليلامس شغاف القلوب، حيث تتكسر أشعة الحرف، متحررة من مصدرها الضوئي. فيعيش القارئ النابه، مع الكاتب أو من دونه، تجربة جمالية تتجاوز تلك الحالة/ الواقعة إلى غبطة فنية تسمو إلى نقاء عاطفي، مجرد من الزمان والمكان. فالخيال المبد ِع، لدى القارئ المنهمك والمتذوق، يتعمد تحطيم تماسك الواقع، ليعيد تشكيل أجزائه بغية تفصيله على مزاجه. وهنا يتعالى انفعال القارئ او السامع فوق غبار الواقع المُعاش إلى خيال يذيب المدركـَات العقلية والحسية في روضة صور جمالية عميقة تسمو على الإدراك العقلي، الذي قد يشوِّه تلك الصور.

يقول نزار القباني 'الفنون بجميع أشكالها هي الجسور التي تربطنا بالآخرين، هي السلالم الحريرية التي نتسلق عليها لنعانق الآخرين'. وهكذا كان بين القارئ، ذي الذائقة الأدبية، وبين الأديب جمال الغيطاني، الذي لم يكتف بردم الفجوة، التي كنت أتشدق بحضورها في كل عمل تعبيري - أدبي شعري فني فلسفي - ، بل صاغ لغته بشكل يُمَكِـّـن القارئ النابه من نهل جمالية النص معجونة بدقة المعنى ورقة الوصف، وممزوجة بحرية الخيال الرومانسي التي قد تعلو حتى على المعنى الذي أراده الكاتب، بل تتمرد عليه، وتثور، وقد تعيش معنى جديدا آخر، يخلقه القارئ الجَسور على هواه، وتبعا لرهافة ذائقته الفنية، انطلاقا من طراوة تلك الجملة الشعرية المنثورة.

وهكذا هل يمكن القول إن 'الأدب تعبير غير عادي عن مشاعر عادية'؟!!

هنا لم تعد اللغة مجرد رمز بارد لمفهوم ساخن، بل تصبح بذاتها مفهوما ملتهبا لمفهوم صادق، قد يكون أو لا يكون كامنا في كيان الكاتب، فترتفع اللغة نفسها إلى مفهوم مجرد من الفكر الذي صنعها، تسمو عليه وقد لا تزنو إليه، وبذلك تستقل عن صانعها وتتحرر من مبدعها.

الغيطاني يخلق من محيطه المألوف مادة جمالية غير مألوفة

المرء ُ ثمرة بيئته. وبتعبير آخر، أكثر صراحة وتقحّما، هو عبد لـ'العقل المجتمعي' الذي نشأ في ظله، لأنه خاضع في الواقع لسلطة ذلك العقل القاهرة، التي تجعله منفعلا بها، أي يصبح طائعا لأوامرها ونواهيها بـ 'عقله المنفعل'. ونادرا ما يستخدم الإنسان العادي قوة 'عقله الفاعل' لمقاومة استبداد او استعباد 'العقل المجتمعي' السائد في المجتمع الذي يعيش فيه.

ولكن يظهر عادة في بعض المجتمعات أفراد ٌ قلة، يدركون هذه الحقيقة. أي ينعون على عامة الناس انقيادهم الكامل للعقل المجتمعي، بما يكمن فيه من قيم ومعتقدات وأعراف ومفاهيم سائدة ومعتبرة بل مقدسة أحيانا. فيعملون على تسليط 'عقلهم الفاعل' على ذلك 'العقل المجتمعي' السائد لينقدوه، بعد أن يكشفوا خزينه ويحللون محتوياته. ويمكن تقسيم تلك النخبة الواعية التي تستخدم عقلها الفاعل في كسر الأبواب المحكمة للعقل المجتمعي، إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول، يصبح انطوائيا ومنعزلا أو مستلـَبا بتعبير هايدغر، وربما مجنونا أو مجرما، أو لامنتميا Outsider، بتعبير كولن ولسن؛ والصنف الثاني يصبح نبيا ثائرا أو بطلا اجتماعيا فاتحا، أو مفكرا مبدعا أو فيلسوفا ناقدا متميزا. أما الصنف الثالث، فهو الصنف الذي يستخلص من مخزون العقل المجتمعي السائد، ويخلق من المحيط الذي يخضع له عامة الناس، مادة خصبة للوصف المتميز والتحليل أو التفكيك والتركيب والبناء، فيضفي عليه معاني جديدة مبتكرة، لم تخطر ببال الناس العاديين. وأعتقد أن أديبنا الغيطاني يدخل في هذا الصنف.

في حيثيات فوز رواية 'رِن ّ' (بكسر الراء وتشديد النون) علّق راشد العريمي، الامين العام لجائزة الشيخ زايد للكتاب، قائلا ' تـَوفـَّر النص على كفاءة سردية متميزة، فالصياغة في دفتر (رِن) متدفقة متوخية الدقة مستعملة تركيبات تلائم الابعاد الروحية المهيمنة على النص وتحاول الارتقاء بالمحسوس والمعيشي الى صعيد روحي يتخلص من الظرفي والعابر ليقبض على ما هو متخط للزمني والتاريخي.'