الأعرجي في مرتفاه وعبقريته

بقلم نزهة الحاج عمر

إذا جاز للمرء أن ينظر الى كل المشاريع الفكرية التي انتجتها عبقريات هذه الأمة منذ بدء حركة النهضة في أوائل القرن الماضي، حتى يومنا هذا، فانه سوف يدرك كم كان المرتقى الذي ارتقاه الكاتب والمفكر العربي الأصيل علاء الدين صادق الأعرجي صعبا.

ذلك أنك بهذا المرتقى لا تواجه محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون وعبدالله العروي ومالك بن نبي، وغيرهم من كبار المفكرين الذين عاصروا أزمات ما بعد حركة التحرر، ولكنك تواجه كل الذين طرحوا، وما يزالون يطرحون السؤال “الصعب-المتعذر” نفسه: لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟

المتعة الحقيقية في مطالعة أعمال الأعرجي، هي أنه لم يواجه أحدا. لم يتحد أحدا. ولم ينقد أحدا ولم يقلل من أهمية أي عمل من أعمال سابقيه. فكل منها في نظره يضيئ جانبا، وكل منها يقدم جانبا من جواب.

ولكن هناك متعة أخرى، هي انه لم يبن مرتقاه على سلالم التعارض بين نظرية وأخرى.

لقد انفق طرابيشي، هذا المفكر الكبير، الكثير من الجهد في البحث عن مثالب بحثية ونظرية في العمل الذي صنع إسم الجابري، وأعني نقد وتكوين العقل العربي.

ومن دون أدنى شك، فانه سعى الى أن يلتقط اتجاها آخر، من خلال تسليط الضوء على الثغرات التي انطوى عليه ذلك العمل التاريخي والجبار الذي قدمه الجابري.

إلا أن الأمر سار مع الأعرجي في اتجاه مختلف. فمن أجل أن يصل الى نهاية الغابة، فقد آثر ألا يطرق الممشى الذي سلكه الآخرون.

ولا شك أن هذا التحدى ظل شائكا بالنسبة له، ولعله سيظل شائكا أيضا، ربما لوقت طويل. فالطرق المستحدثة في الفكر غالبا ما تواجه من التحديات والأسئلة والانتقادات أكثر مما تواجهه الطرق السالكة.

ومن دون أن ينشغل بنقد رؤيةٍ أو نقد نقدها، فقد بنى الأعرجي نظاما مفاهيميا مختلفا.

لقد نظر أولا الى المجتمع العربي المسلم، بثقافته، ومفاهيمه، وتقاليده، وعاداته، وموروثه، وأحكامه، ليكتشف أن لقصة التخلف بُعدا أكثر عمومية، وأكثر جلاء، ولكنه كان، في الوقت نفسه، الأبعد عن النظر والتحليل الأكاديمي.

هل كانت العمومية الزائدة، هي التي دفعت المفكرين العرب الكبار الى أن يبتعدوا عن النظر في الطابع المجتمعي لظاهرة التخلف؟

ولكن هل كان هناك شيء أوضح، وأكثر جلاء، منها أصلا؟

لقد كان من الرائع والمدهش والمنير لكل عقل أن يكشف الجابري عن الأقانيم البيانية والبرهانية والعرفانية لأنظمة التفكير العربية منذ عصر التدوين. ولقد كان من المدهش أيضا ينير العروي الطريق الى فهم الأثر الذي تركه غياب الدولة الحديثة، او سطوة الأديولوجيات وسطحيتها. كما كان من شديد الفائدة ان يحاول بن نبي إعادة تكييف العلاقة بين المسلم والحضارة، إلا أن ذلك لم يكن ليغني على الإطلاق عن النظر في أوجه التخلف كما يقدمها المجتمع العربي هو بنفسه.

يشبه الأمر، الى حد ما، أن تجد ثقافة التخلف معروضة في دكان يعرض كل بضاعة المفاهيم المتحجرة والجامدة والمغلقة، وتتركه لتبحث عن أوجه نظرية، حتى ولو كانت غنية من الناحية المعرفية، فانها تظل أبعد عن التقاط ذلك الوجه العملي، اليومي والمتداول، من ظاهرة التخلف.

لقد انطلق الأعرجي من هذا المكان ليشق طريقا يتفحص ليس ظواهر المفاهيم، وآليات دورانها، وانما الأسس المجتمعية التي تجعل من التخلف آلية قابلة للتكرار والتراكم والتفاقم.

لستُ أزمع أن أعيد سرد الإطار النظري الذي استند اليه الأعرجي، ولكن لا مفر من الإشارة الى انه استند الى ثلاثة أسس نظرية جديدة، هي على رغم تكاملها، فان كل أساس منها ينطوي على قيمة استثنائية خاصة به أيضا.

الأساس الأول، كان نظريته القائلة أن هناك “عقلا مجتمعيا” هو غير عقل الفرد.

وكأي “عقل” آخر، فان “العقل المجتمعي” يتشكل في إطار منظومة فكرية متكاملة ومغلقة على مفاهيم محددة ومتوارثة. وهذا ما يجعله “عقلا” قائما بذاته. ويدافع الأعرجي بكل قوة عن التصور القائل انه في هذا “العقل” تكمن واحدة من أهم ركائز التخلف.

ما الذي يجعل أي عقل عقلا؟

إنه مفاهيمه واعتباراته وأحكامه وموروثاته. وبالتالي معادلاته التي تصنع كل ما يستنتجه أو يقتنع به. والمدهش في اندفاع الأعرجي الى النظر في هذا العقل، هو انه رآه عاما وشائعا ومتداولا ويجدد نفسه بنفسه.

ونحن نراه الآن أيضا، بأسطع وجه، بفضل تلك الإنارة الخلاقة التي أضاءها الأعرجي. ان “العقل المجتمعي” موجود هنا، كما إننا نعيشه ونمارسه، في عاداتنا المتوارثة وفي كل تصور من تصوراتنا المسبقة.

وعلى الرغم من ان معادلاته لم تعد هي المعادلات الوحيدة، إلا انها ما تزال هي المعادلات الحاكمة والسائدة في بيئة كل مجتمع عربي ومسلم.

أحد أهم أوجه الأبداع هي أن تنير منطقة معتمة. وهذا ما ظل يمنع الأعرجي من مناكفة أعمال سابقيه. ذلك لأنهم أناروا بالفعل سلسلة مناطق معتمة في تكوينات العقل العربي وفي أسباب التخلف. ولكن ما رأيك في أن تنير منطقة ساطعة، لا يراها أحد؟

العقل المجتمعي الذي سعى الأعرجي الى تحليله وتفحص مفاهيمه وأدوات عمله، هو، بالذات، كل ما نعيش فيه، من دون أن نراه.

واحد من أهم أوجه العبقرية هو أن تحفر، ليس بعيدا عن موطئ قدمك، لتكتشف كم من كنوز المعرفة يوجد تحت قدميك.

لقد رأى الأعرجي ما نعيشه ولكن ما لا نراه. وهناك بدأ شغله في تحليل المفاهيم التي ظلت تسيطر على هذا العقل المجتمعي، بل وأبقته سجينا بين أسوار أحكامه المسبقة وتصوراته الجاهزة.

أما الأساس الثاني لمشروعه النظري، فقد كان لا بد أن يعود ليتفحص الأثر الذي يتركه عقلٌ مجتمعيٌ سجين نفسه، على عقل الأفراد وممارساتهم وتصوراتهم. ومن هنا توصل الأعرجي الى نظريته في “العقل المنفعل” التي اعتبر أنها تشكل الأساس للعقل الفردي ضمن ذلك “العقل المجتمعي”.

إنه عقلٌ سلبي. عقلٌ يتلقى المفاهيم من دون أن يدقق فيها، ومن دون أن يحاكمها ليخرج باستنتاج مختلف. إنه عقلُ نقلٍ، لا عقل فعل. إنه عقل تقليد لا عقل تجديد. كما أنه عقلٌ محكومٌ بالرجوع الى الوراء لا عقل تقدم. ذلك أن الموروث أدنى، بالنسبة للعقل المنفعل، لوضع الإجابات الجاهزة، بدلا من اقتحام الطرق الجديدة،.. التي وإن كانت دافعة للتقدم، إلا أن مألوف الماضي يظل مريحا، بالنسبة للعقل المنفعل، أكثر من مغامرات الحاضر أو من خوض تحديات المستقبل.

نحن نتخلف ليس لأننا لا نعود الى الوراء من الناحية الفعلية، بل لأننا نعجز عن الحركة نحو المستقبل، وهذا ما يجعل البون الذي يفصلنا عن كل مجتمع متحرك، شاسعا جدا.

نحن نستخدم اليوم كل أدوات التكنولوجيا، وقد نقدم مساهمات في بعضها، إلا أن السائد، هو أننا نتعامل معها من دون أن تكون قادرة على أن تثير أسئلة، ومن دون أن تشكل أساسا لثقافة مجتمعية مختلفة. وحتى ما نساهم فيه يظل سجين التقليد، إقتفاء لأثر سابق.

وكل ما تفعله ثقافتنا، إذا أرادت أن تبرهن لنفسها شيئا، هو أن تسنده الى قول مأثور، أو نص مسبق، لتقنع نفسها بصدقه أو بصحته.

ومثلما أن العقل المجتمعي عقل سجين لمفاهيمه ومسبقاته، فان العقل المنفعل سجين لمفاهيمه ومسبقاته، سوى أنه سجين مرتين. مرة بواقع وجوده في زنزانة حكم الماضي المؤبد، ومرة بواقع أنه لا يريد أن يخرج من السجن أصلا.

إذا كان العقل الفاعل، في المقابل، هو ما يصنع الحضارة، فان العقل المنفعل هو ما يصنع التخلف. وبينما تندفع المجتمعات التي تحرر أفرادها من سطوة العقل المنفعل، بقبول النقد، وقبول الخروج عن المألوف، واختبار قدرات التجديد على انتاج ثروات جديدة، فان العقل المنفعل يفعل العكس تماما. انه لا ينتج إلا ما يعرفه، ولا يجرؤ على اجتراح قول مختلف، ويخاف من تجربة الشيء الجديد. ويعيش راضيا هانئ البال بأشيائه المألوفة.

أما الأساس النظري الثالث الذي بحث فيه الأعرجي، فهو من الجلاء التاريخي بحيث أنه لا يحتاج مزيدا لمستزيد. ولكن الأهمية الاستثنائية إنما تكمن في الاستنتاج المنير الذي توصل الأعرجي فيه.

يقول الأعرجي إن العرب لم يمروا بمرحلة الزراعة، بوصفها مرحلة اجتماعية متكاملة. ويجب ان نشير الى أن الزراعة كانت، وما تزال موجودة، إلا أنها لم تبلغ حتى يومنا هذا، ذلك الحد الذي يجعل منها مرحلة تاريخية متجذرة، وقادرة على أن تنتج عقلا مجتمعيا جديدا. لقد ظلت الزراعة، مجرد أداة من أدوات تلبيىة الحاجات الآنية، ولم تقدر على أن تتحول الى “نظام اجتماعي-اقتصادي” قادر على أن يُشكل لنفسه ثقافة جديدة تكبح ثقافة نظام اجتماعي – اقتصادي سابق.

لقد انتقلنا من الرعي الى الرأسمالية، فوجدنا أنفسنا مستهلكين لمنتجات حضارة الغير من دون ان نكون قادرين لا على المشاركة في الانتاج ولا على فهم أسس الثقافة التي اتاحت للرأسمالية ان تشكل عامل تقدم. كما أننا لم نقدر على تكوين الرأسمالية كنظام اجتماعي-اقتصادي بديل. ومثلما ظلت الرزاعة مجرد بقع انتاجية متفرقة على سطح الثقافة، فقد اصبحت الرأسمالية مجرد بقع متفرقة على سطح ثقافتنا أيضا.

نحن نعيش على تكوينات من سلسلة بقع ثقافية متفرقة. وهذا ما يجعل التصادمات الداخلية حادة، ثقافيا واجتماعيا وحضاريا ايضا. نحن نجمع مثلا، بين أقصى أوجه السفور، ونقدم أمسيات لما يسمى “آراب آيدول” مثلا، بينما يغزو النقاب والحجاب شوارعنا. وكلاهما في نظر الآخر كفر. أي إما كفر بالحضارة، ونحن لا نملك منها شيئا، أو كفر بالدين، ونحن لا نفهم من قيمه الحضارية شيئا أيضا.

لقد تفحص الأعرجي تناقضات هذا الواقع، كما لم يفعل أي مفكر عربي آخر. وهو عالج المشكلات الجوهرية التي ظل ينطوي عليها الواقع، لكي يقول إننا لكي نكون قادرين على حل مشكلة التخلف، فيجب أن نكون قادرين على انتاج ثقافة جديدة. ولكي تُصبح هذه الثقافة ممكنة أصلا، فاننا بحاجة الى بنيات اقتصادية واجتماعية جديدة، تتكامل مع نظام للحريات يكفل للأفراد حقهم في النقد والتجديد والخروج عن المألوف. وهذا واقع لن يبدأ إلا بإعادة نظر شاملة في أنظمة التعليم، وفي القدرة على إعادة النظر في أنظمة التفكير الموروثة.

ويجرؤ الأعرجي على القول، أيضا، إننا ما لم نقتحم غمار النقد والتجديد، للخروج من سجن العقل المجتمعي، وتحرير الأفراد بعقل فاعل لا منفعل، فإن هذه الأمة سائرة من دون أدنى شك في طريق الإنقراض. ومثلما انقرضت أمم كثيرة أخرى، فان هذه الأمة على عظمتها وعظمة تاريخها، فانها يمكن أن تنقرض، لتتحول الى جماعات متفرقة، متناحرة، ينهش بعضها لحم بعضها الآخر.

فهل رأى أحد منكم، ما نفعله ببعضنا الآن، بالفعل؟

لقد ارتقى الأعرجي طريقا صعبا. ولكنه ارتقاه، وارتقى به، ليرتقي بقدرتنا على فهم أسباب التخلف.

ولقد بنى الأعرجي نظام مفاهيم نظرية مستقلا. وهذا وحده كاف تماما ليجعل منه مفكرا استثنائيا بين القليل، والرائع، من مفكري هذه الأمة.