لولا تخلفنا لما نفذ الآخر

بقلم الأعرجي

بعد أن ظل الإنسان هائما متنقلا في البراري والغابات عدة ملايين من السنين استقر تدريجيا في الأرض التي زرعها بأبسط الوسائل، قبل حوالي عشرة آلاف سنة فقط، في منطقة الشرق الأوسط. ثم انتشرت الزراعة في أوروبا في حدود 6500 – 4000 قبل الميلاد – كما يقول كليبل في كتابه الإنسان الأول: KLEIBL, EARLY MAN

واستمر الصراع على حيازة الأرض ليشكل أهم مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والفردية.

ويروي التاريخ أن أهم الحروب التي نشبت خلال الفترة التاريخية هذه كانت بسبب الاستيلاء على الأرض أو الدفاع عنها. ويمكن القول إن أبشع المذابح التي سجلها التاريخ حدثت في الأميركتين، باستئصال عشرات الملايين من السكان الأصليين الذين رحبوا، بالأوروبيين القادمين. وحدث ذلك بسبب الاستيلاء على الأرض واستيطانها. كما أن كارثة الشعب العربي الفلسطيني، الذي شُرد من بلاده منذ منتصف هذا القرن بوجه خاص، واغتصبت أراضيه – تحت سمع العالم وبصره، بل بمباركة الدول العظمى – وكفاحه في سبيل استعادة حقوقه، تدل على مظهر آخر من تمسك الإنسان بأرضه، لا باعتبارها أهم ما يملكه وحسب بل لأنها تشكل جوهر كيانه وهويته ووجوده ومصيره، كشعب له مقومات معينة وتاريخ وثقافة تبلورت على تلك الأرض، منذ آلاف السنين.

ومع إقرارنا بذلك، إلا أننا نشعر الآن، بعد أن قدّمنا كل تلك التضحيات ومررنا بتلك التجارب التي أسفرت عن تحرير أراضينا من السيطرة الاستعمارية، التي كانت جاثمة على معظم أجزاء الوطن العربي الكبير، أن هناك عنصراً آخر كان يجب علينا أن نسعى إلى تحريره وتطويره في نفس الوقت الذي كنا نسعى فيه إلى تحرير أرضنا أو قبل ذلك بكثير، وهذا العنصر، لا يعادل عنصر الأرض أهمية وخطورة وحسب، بل قد يتجاوزه بمراحل شاسعة، فبدونه قد لا يجدي تحرير الأرض فتيلاً، ونقصد به طبعا تحرير إنسانية الإنسان. أي تحرير الإنسان لكونه إنساناً، قبل كل شيء، بصرف النظر عن دينه أو أصله أو جنسه، أو لونه أو انتمائه العرقي أو العشائري أو الأيديولوجي، واحترام إنسانيته في المقام الأول، ويدخل في إنسانيته طبعا معتقدة وفكرة وحرية ضميره وتعبيره، وقبل كل ذلك حقه في الحياة والتعليم والتقدم، وما إلى ذلك من الحقوق المرسومة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي ظلت حبراً على ورق بالنسبة لمعظم بلدان العالم، كما ظلت تطبق بشكل ناقص حتى في البلدان المتقدمة، التي إن طبقتها جزئيا في بلدانها، إلا أنها أسرفت في انتهاكها عندما يتعلق الأمر بالشعوب الأخرى.

** * **

لو ألقينا نظرة عاجلة على البلدان العربية خاصة، والبلدان النامية، أو المتخلفة عامة، التي تخلصت من الحكم الأجنبي منذ الخمسينيات من القرن الماضي، لتبين لنا أن معظم تلك البلدان، قد انحدر إلى أزمات داخلية أو خارجية، أو عانى من حروب أهلية مزقته أو كادت، أو تعرّض لحكم استبدادي بوليسي مُدَمّر. وقد يقال، كما يتردد كثيراً، إن الاستعمار العالمي، ولا سيما مصالح الدول الكبرى والشركات المتعددة الجنسية تأبى أن تترك تلك البلدان وشأنها، بل تحاول أن تخلق لها المتاعب، وتدس الفرقة بين الصفوف، وتُسَلح هذا وتحرض ذاك، بغية استغلال تلك البلدان والنفاذ إلى مصادر الثروة … إلخ. وهذا الرأي وارد إلى حد بعيد، ولكن ألا يصح أن يقال أيضا إنه لولا تخلفنا وضعفنا الحضاري لما استطاع العدو أن ينفذ إلى صفوفنا (انظر “واقعية تخلفنا” في الفصل الأول). وإلا فلماذا لم يتمكن من التأثير على اليابان وألمانيا اللتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية في حالة دمار كاملة وشاملة في جميع مرافقها وهياكلها الاقتصادية، بعد أن خسرتا الحرب وسيطرت عليهما البلدان المنتصرة سيطرة تامة…؟

ومع أخْذَنا بنظر الاعتبار مشروع مارشال، والمساعدات الاقتصادية التي قدمتها أمريكا لليابان لإنعاشها وتطويرها، ربما للوقوف في وجه الخطر الأصفر للعملاق الصيني؛ فإن مستوى العنصر البشري الفاعل المتطور نوعياً، بالإضافة إلى الإدارة الحكيمة، التي تحترم المواطن وترعاه، يشكلان عاملاً متحكِّماً في النهضة الحضارية لأي بلد. حتى أصبحت اليابان وألمانيا تنافسان الولايات المتحدة اقتصادياً وعلمياً.

إن مبدأ احترام الإنسان باعتباره إنساناً يرتبط بأمور أخرى لا يتحقق إلا بها، لعل من أهمها التربية الصحيحة، واحترام الحق في التفكير المستقل والتعبير المستقل.

يقول المربي محمد جواد رضا “العقلانية والإيمان بكرامة الإنسان كانا المنطلق الجديد إلى استلام الغرب زمام القيادة الحضارية الحديثة التي ما نزال – نحن العرب – ننزل منها منزلة التبعية والاحتياج لا لقصور في مواردنا الطبيعية أو قدراتنا الفطرية، بل – حتى بين أسباب أخرى – لفساد التربية التي نربي عليها أجيالنا، وجبنها – أو نفاقها – عن اقتحام هذين المجالين الحيويين: العقلانية في التعامل مع الكون والنظام الاجتماعي، والإيمان بالإنسان كقيمة مركزية في هذا الحياة” (العرب والتربية والحضارة، الاختيار الصعب – مركز دراسات الوحدة العربية).

** * **

إن منطلق المؤسسة الموسوعية في المهجر هو محاولة بناء شخصية وكرامة الإنسان العربي وحريته الفكرية والعملية، على أسس عقلانية، نقدية، وذلك من خلال أدوات متعددة لعل من أهمها وضع التراث العربي – الإسلامي في إطاره التاريخي الصحيح، واحتوائه بدلاً من أن يحتوينا، كما هو حاصل اليوم. أما التخطيط لثقافة المستقبل فمعناها توفير شروط المواكبة والمشاركة: مواكبة الفكر المعاصر والمشاركة في إغنائه وتوجيهه، وذلك هو "معنى المعاصرة". كما يقول الجابري.