المؤلفات الكاملة

إرساء الأسس للنظريات الثلاث

هذا كتاب تخَلَّـقَت نظرياته ومضامينه واستنتاجاته السوسيولوجية والفلسفية والسياسية وأفكاره الرئسية، خلال عقود طويلة سابقة. ولئن يعترف صاحبه بفضل العدد الكبير من الفلاسفة والمفكرين العرب والأجانب، الذين درسهم أو اطلع على كتاباتهم أو حاورهم، إلا أنه يرى أن الفرضيات/النظريات الرئيسية الثلاث، التي وردت فيه تختلف بشكل أو آخر، لذلك يمكن اعتبارها إضافة كأس صغيرة إلى بحر المعرفة.

يستند المؤلف الى مصطلح "العقل المجتمعي"، ذلك "الكيان" الذي يحمل تاريخ المجتمع، وبالتالي قيـّمه ومسلـّماته، ليرسم صورة لطبيعة العقل المكبل بسلطة الماضي وقيوده. ليخلص الى القول إن هذا العقل لا يُخلـِّف إنساناً حراً مبدعاً، بل دُمية تُحركها الخيوط المتصلة بجميع تلك السلطات/ القيود.

وسعيا وراء معالجة بعض إشكاليات الأزمة الحضارية، وضع المؤلف نظرية "العقل الفاعل والعقل المنفعل"، التي تحاول أن تـُوَصِّـفُ وتحدد كيفية الخلاص من قهر "العقل المجتمعي"، في وجهه المتخلف. وذلك قبل أن يبحث المؤلف في الفصول الثلاثة الأخيرة أزمة العقل العربي المعاصر من خلال "ثنائية الإبداع والاتـِّباع"، باعتبارها ترتبط ارتباطاً مباشراً، وغير مباشر، بالعقل المجتمعي وبنظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل.

ولكن الكتاب يبدأ من فكرة "متقحمة" تقول إن الأمة العربية، ما لم تنهض الآن وتعالج مشكلات تخلفها، فإنها سائرة في طريق الانقراض كما انقرضت من قبلها 14 حضارة إنسانية سابقة.

أزمة التحضر انطلاقا من نظرية "عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة"

يطرح هذا الكتاب فرضيّة/ نظرية جديدة، مفادها أن العرب المسلمين بعد الإسلام، لم يمروا بمرحلة الزراعة وصولاً إلى مرحلة التَحَضّر فالحضارة. وحاول المؤلف أن يقدم أدلة تاريخية تشير إلى أن العرب المسلمين عندما فتحوا البلدان، كان معظمهم من البدو الذين لم يمارسوا الزراعة بل كانوا يحتقرون مَنْ يمارسها. ولكنهم استقروا في المدن الكبرى المفتوحة فظلت قِيَمُهُم البدوية ثاويةً في العقل المجتمعي. ومنها التعصب القبليّ الذي حاربه الإسلام بدون جدوى، لأن العقل المجتمعي أقوى من الدين والشرائع. وهذه القِيَم تظهر اليوم في التعصب المذهبي والديني. وقارنّا وضع عرب الخليج اليوم، أي بعد الطفرة النفطية، مع وضع العرب المسلمين بعد طفرة الفتوحات الإسلامية. فلاحظنا وجود تشابه شديد بين الحالين، لاسيما احتقار المهن اليدوية، واكتساب الثروات الريعيَّة السريع.

ولقد حاول سلام أن ينقذ العرب من حال البداوة القائمة على العصبية القبلية المفضية إلى التحارب والنزاع الذي كان مستمراً في الجزيرة، فقال إنما المؤمنون أخوة وقال وتعاونوا على البِرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. ولكن العقل المجتمعي البدوي كان أقوى من قواعد الدين الجديد، وهذه خاصية مهمة للعقل المجتمعي الذي يقاوم عادة جميع القوانين والشرائع.

الخيار المفتوح بين الثورة والانقراض

سرعان ما يستطيع قارئ هذا الكتاب أن يكتشف أن الأعرجي لا يقدم فكراً نظرياً مجرداً. ولا يجعل من محاكماته لآليات عمل "العقل المنفعل" مجرد كشف حساب رياضي للمفاهيم التي ألقت بظلها على كل شيء. إنه يُحاكِم تلك الآليات ويقدّم أدلّته الواقعية عليها ويكشف عن مضامينها النظرية وتبعاتها، من أجل أن يُطلق نداء "العقل الفاعل" للبدء بتحرير الفكر، وتحرير المعالجات العملية، من أسْرِ التكرار والتقليد والعجز عن الإبداع والنقد. كما يضع الأعرجي إصبعه على جُرح غائر، موغل الأثر. إنه جُرح العلاقة المأساوية بين التراث والحداثة. فالعرب الذين فاتهم قطار التحديث، فشلوا في أن يركبوا قطار التراث. ليس لأنه قطار ذاهب الى الخلف، بينما هم بحاجة الى الذهاب الى الأمام، بل لأنهم لم يفهموه أصلاً، ولا نظروا اليه نظرةً تاريخيةً عقلانية، وقطعوا تذاكرهم، كلٌّ في عربة خاصة به، ليكتشفوا أن تلك العربة لا توصل الى أي مكان، وأنها منعزلة، وغير كافية لكي تضم ّكل تصادمات التراث مع نفسه، دع عنك تصادماته مع الحاضر. وذلك قبل أن يكتشفوا أن قطارهم، الذي لا يوصل الى الأمام، لا يوصل الى الخلف أيضا. وأنه تائه (ليس بنفسه، لو أُحسن توظيفه في معترك التقدم، كما فعلتْ أممٌ أخرى) ولكنَّه تائه بتوظيفه "المنفعل" وبتحويله الى حارس أمين لـ "السجن المجتمعي" الذي ظل سجناؤه (نحن) يدورون حول أنفسهم عاجزين عن الخروج من دائرة التخلف. وقد لا يبدو الأعرجي أقل تحدياً في الفكر من محمد عابد الجابري الذي حلل مكوِّنات العقل العربي وحاكم قوالبه ومفاهيمه، ولكن يجرؤ المرء على القول إن الأعرجي، بمقاربة نظريات مختلفة، دفع بذلك التحليل الى المختبر التاريخي والمجتمعي الصحيح.

أول معالم الطريق الى الخروج من دائرة التخلف

يطرح هذا الكتاب مشروعا لإنشاء مؤسسة موسوعية عربية تعيد النظر في قضية العلاقة بين التراث والحداثة. وأن المشروع يتجاوز جميع المحاولات الفردية والجماعية السابقة، لأنه لا يتعلق فقط بإخراج موسوعة عربية شاملة تعيد كتابة التراث/ التاريخ العربي الإسلامي بموضوعية ومنهجية رصينة، بل يتعلق أيضاً بجمع أكبر عدد ممكن من العلماء والأكاديميين والمثقفين العرب المقيمين في المهجر، والذين يقدمون خدماتهم اليوم للمؤسسات الأجنبية التي يعملون فيها حصراً. وبذلك يشكلون قوة عظيمة وثروة علمية وفكرية ضائعة، سيمكن استعادتها وتوظيفها لخدمة وطنهم الأم وشعوبهم الغارقة في التخلف.

والمسألة لا تقتصر على تقديم تعريفات كما تفعل الأعمال الموسوعية السابقة التي لم ترق إلى ما توصلت إليه الموسوعات الحديثة من موضوعية وإتقان واستكمال، وإنما الاستناد الى أسس منهجية جديدة للنظر الى التراث. ولمد جسور العلاقة مع الحاضر والمستقبل.

والمقصد النهائي من هذا المشروع هو تقديم خلاصة معرفية للجيل الجديد عن تاريخه وقضاياه ورموزه، وعن الإشكاليات التي واجهها السلف، والصراعات التي خاضوها والقضايا الفقهية التي انشغلوا بها، وذلك من وجهة نظر موضوعية، متحررة، وقادرة على أن تقرأ ذلك الماضي انطلاقا من منهجية علمية صارمة.

العلاقة الجدلية بين الإنسان، التربية والتنمية

يضع المؤلف في هذا الكتاب اصبعه على جرح نازف. ذلك أن أحد أهم إشكاليات التخلف تبدأ من فشل أنظمة التربية والتعليم. ولكن ليس بمعنى وجود أو عدم وجود مدارس وجامعات، ولكن بمقدار كفاية المناهج التعليمية على تقديم إنسان متعلم بحق، قادر على استخدام عقل متحرر من قيود وعوائق ومفاهيم "العقل المجتمعي" التي تحاصره.

ويرى المؤلف أنَّ هذه الإشكالية تعتبر من أهم الأسبابِ التي أَدَّت إلى استمرارِ الأزمة، بل إلى زيادةِ تفاقُمِها وتعقُّدها، وربَّما أصبحتْ تُشكِّلُ اليومَ عامِلاً رئيسيًّا في "إعادة إنتاج التخلُّف"، وتكريسهِ بأشكالٍ ومظاهرَ مختلفة، تتضاعف خطورتها بمرور الزمن. علمًا أنَّ "إعادةَ إنتاجِ التخلُّف" أخطرُ جدًّا من واقعةِ التخلُّف عينها، لأنَّ هذه الأخيرةَ تَعني وجودَ إشكاليَّةٍ مُهمَّةٍ لاحظنا وجودَها وأدركنا أخطارَها وربَّما عرفنا أبعادَها، وبالتَّالي نحن بصَدد معالجتِها وحلِّها. أمَّا إعادةُ إنتاجِ التخلُّفِ فمَعناهُ أَنَّنا ما نزالُ نُعيدُ تكريسَ التخلُّف ونُضاعفُه، إمَّا لعدَم وَعيِنا إيَّاهُ ابتداءً، أو أنَّ إدراكَنا أبعادَه كان ناقصًا، أو أنَّ الحلولَ المُقتَرحةَ والمُطبَّقةَ كانت فاشِلة.

وإذ أن هناك علاقةٌ جدليَّةٌ وثيقةٌ وعميقة،ٌ متبادلةٌ ومتشابكةٌ، بين هذه العناصِر الثلاثة: الإنسان، التربية، التنمية، وبالتالي الحضارة والتقدُّم، فان التربية والتعليم المتحضران هما الأساس الوحيد الذي يمكنه أن يضمن تنمية فاعلة، لا تخلفا يعيد انتاج نفسه.

حوار بين مشروعين كبيرين

يستند هذا الكتاب الى اربعة أسس. الأول، كيف ينظر الأعرجي الى المفكر الكبير محمد عابد الجابري، بالمعنيين الفكري والشخصي أيضا. وسيجد القارئ ان الأعرجي طالما نظر باحترام شديد لمشروع الجابري الفكري، وحافظ على علاقة مودة شخصية معه، سمحت لهما بتبادل الأفكار والآراء كشخصيتين تنطلقان من هم حضاري ومعرفي واحد. أما الأساس الثاني، فانه يستعرض قضايا الخلاف بين الرجلين. ويذهب الى تفحص الطبيعة العميقة لهذه القضايا، ولماذا يشكل كل منهما نافذة مختلفة تماما عن الأخرى لقراءة أسس التخلف وأسبابه.

أما الأساس الثالث، فيتعلق برؤيتين مختلفتين لمشروع "إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي". فكل من هذين المفكرين عالجا هذه القضية الجوهرية انطلاقا من تصوره المعرفي الخاص ليس لأسباب التخلف فحسب، بل ولطريق الخلاص أيضا. وهنا أيضا، فلسوف يكون من الواضح للقارئ انهما طريقان مختلفان، ويقودان الى نتيجتين مختلفتين.

أما الأساس الرابع، فهو الحوار الذي جرى الرجلين، والذي قدم صورة ملفتة للانتباه الى أن الجابري المفكر ربما ليس هو نفسه الجابري السياسي. ولئن احتفظ الاعرجي بوجهة نظره ذات الطبيعة الأكثر حذرا، فقد بدا الجابري متفائلا، على عكس ما كان يفترض بالمؤديات التي توحي بها منطلقاته المعرفية.